«ثلاثاء أسود» في لبنان… الدولار «يلتهم» الليرة والأسواق تلتهب

«ثلاثاء أسود» في لبنان… الدولار «يلتهم» الليرة والأسواق تلتهب

المصدر: الراي الكويتية
25 ايار 2022

فيما كانت القوى السياسية، على اختلافها، والتغييرية، «تربط الأحزمة» في ملاقاةِ المسار الشائكِ لمعاودة تكوين السلطة انطلاقاً من «المطبخ التشريعي» عبر جلسة انتخاب رئيسٍ لبرلمان 2022 ونائبه وهيئة مكتب المجلس، أفْلت سعر الدولار الأميركي في أسواق القطع اللبنانية بشكل شبه تام من قمقم منصة صيرفة التي يديرها البنك المركزي، ليحطّم، خلال ساعات قليلة، كل السقوف القياسية السابقة وينذر بالتهاب كبير في ميدان التبادلات النقدية غير النظامية والتي تسيطر فعلياً على الجزء الأغلب من عمليات القطع اليومية.

ولم يقتصر «الثلاثاء الأسود» النقدي على تسجيل انهيار تاريخي لليرة أمام الدولار الذي تجاوز للمرة الأولى منذ تدشين «السقوط الحر» المالي (مارس 2020) 34 ألف ليرة، بعدما بلغ الارتيابُ أوْجه في شأن مندرجات خطة النهوض المالي التي أقرّتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في آخر جلسة دستورية لها قبيل تحوّلها إلى تصريف الأعمال بالنطاق الضيق، ربطاً ببدء ولاية مجلس النواب الجديد مطلع الأسبوع الحالي، حيث تأكدت، ووفقاً لما نشرته «الراي» قبل 3 أيام، توجهات السلطة التنفيذية لتحميل المصارف والمودعين، من مقيمين وغير مقيمين، الثقل الأكبر من الفجوة المالية البالغة نحو 73 ملياراً، في حين تمنح صكيْ براءة من أي مسؤوليات للدولة ومصرفها المركزي.

وعاشت بيروت ساعات عصيبة، أمس، تسمّرت معها العيون والأسواق على سعر صرف الدولار الذي حَجَبَ هدير «قفزاته» التاريخية كل العناوين السياسية التي يكاد أن يختصرها «اللهو بالأرقام» على تخوم جلسة مرجَّحة الأسبوع المقبل (ضمن مهلة الحثّ الدستورية المحددة بـ 15 يوماً) لانتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه وهيئة المكتب، وهي المحطة التي تكاد أن تتحوّل «جاذبة صواعق» على خطين: أوّلهما موصول بـ «تصفية حسابات» مرتبطة بذيول الانتخابات ومعاركها كما بالوقائع الجديدة التي أفرزتها وقلبت توازنات البرلمان ولو في اتجاه «توازن سلبي» بين ائتلاف «حزب الله» والتيار الوطني الحر «وبين خصومه من قوى سيادية، وقوى تغييرية ومستقلين.

وثانيها يرتبط باستحقاقاتٍ متشابكة ليس أوّلها تشكيل الحكومة الجديدة التي يفترض أن توفّر «هبوطاً آمناً» للانتخابات الرئاسية (موعدها الدستوري بين 31 أغسطس و31 أكتوبر)، فإذ بـ «المتاريس» ترتفع من حولها إيذاناً بما بدا عملية «لي أذرع» ارتسمت من خلْفها «معادلات رعب» ومحاولات لإرساء توازنات «حافة الهاوية»، تبدأ من تلميحٍ بعدم التئام البرلمان الوليد ما لم يضمن الرئيس نبيه بري انتخاباً مُريحاً، وهي «العصا» المرفوعة خصوصاً بوجه «التيار الوطني الحر» الطامح وفق خصومه لمقايضاتٍ تشمل الحكومة والرئاسة، ولا تنتهي برمي «فتيل» بقاء الرئيس ميشال عون في قصر بعبدا (وفق ما عبّر النائب جميل السيد) بعد انتهاء ولايته ما لم تكن وُلدت حكومة مكتملة الصلاحيات.

وبين الاستحقاقيْن، تَمْضي علاقة ميقاتي والتيار الحر ورئيسه جبران باسيل بالتشظي، وفق ما ظهّره السجال المتمادي بمكبّرات الصوت وبلغة «التحدي» بين رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير الطاقة وليد فياض على خلفية ملف الكهرباء وسحْب الأخير العرض الذي قدمته شركتا «جنرال إلكتريك وسيمنس» بالاتفاق مع مجموعات دولية لتزويد لبنان بالطاقة الكهربائية من جدول أعمال آخر جلسة للحكومة قبل دخولها مرحلة تصريف الأعمال، وهو السجال الذي توّجه أمس موقفان لكل من فياض وميقاتي الذي بلغ حد اتهام الأول بـ «سلوكيات ملتبسة وإصدار بيانات ملفّقة»، سائلاً «هل فعلا هو الذي يدير شؤون الوزارة؟».

ولم يكن ممكناً فصْل هذا المناح السياسي اللاهب، كما ما اعتُبر «محاولات مشبوهة للانقلاب» على نتائج الانتخابات، إلى جانب الأسباب التقنية المالية – النقدية، عن «التهاب» سعر الدولار وسط إحجام صريح عن طرْحه خارج مداولات منصة البنك المركزي التي تَعرض العملة الخضراء بسعر يقارب 25 ألف ليرة، ولكن بتقنين شديد بات يلزم بتوجه الجزء الأكبر من الطلبات الفردية والتجارية إلى «السوق السوداء»، حيث شهدت الأسعار ارتفاعات صاروخية ساعة بساعة، بحيث تعدى الدولار بيسر عتبة 33 ألف ليرة صباح أمس، ليتخطاها إلى 34 ألف ليرة ظهراً، ثم إلى 34 و200 ليرة في أولى ساعات بعد الظهر، وسط غياب شبه تام لأي تدخلات طارئة تكفل كبح الصعود الحاد من قبل البنك المركزي، ما أَنْذَرَ بمزيد من التدهور الدراماتيكي في سعر صرف الليرة في الساعات والأيام المقبلة.

وعلى خط مواز، برزت تفاعلات فورية في أسواق الاستهلاك دشّنتْها الارتفاعات المطردة في أسعار مختلف المشتقات النفطية والمرشحة لاندفاعات أكثر حدة تباعاً، حيث لامس سعر صفيحة البنزين مثلاً 600 ألف ليرة.

في حين واكبت السوبر ماركت ومحلات البيع بالتجزئة «جنون الدولار»، فاعتمدت بدايةً مستوى 35 ألف ليرة للدولار كقاعدة تسعير، وما لبثت أن تخلت عنه لتعمّ الفوضى باعتماد مستويات سعرية تحوّطية تحاكي عتبة 40 ألف ليرة لكل دولار، ومعزَّزة بتقليص عرض السلع تحسباً لتفلُّت أوسع نطاقاً.

وترافق ذلك مع تحذير رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية هاني بحصلي من أنه «في حال استمرار الأمور بالتطوّر السلبي لا سيما على مستوى سعر الدولار، لن تتمكّن فئة كبيرة من اللبنانيين من الحصول على كامل احتياجاتها من الغذاء كما الدواء والخدمات الاستشفائية وخلافه»، مشدداً على أن «التحدّي الأكبر اليوم، ليس في تأمين المواد الغذائية، إنما في استطاعة المواطن دفع ثمنها لاسيما بعدما اقترب سعر صرف الدولار من الـ34 ألف ليرة وتدني القدرة الشرائية للمواطنين بشكلٍ أكبر».

وإذ كانت نقابتا الأطباء والمستشفيات الخاصة تستعدان لإضراب تحذيري غداً وبعده احتجاجاً على الواقع المالي الكارثي و«الإجراءات المصرفية التي ضربت أصول العمل المصرفي وجميع القوانين والأعراف عرض الحائط، وحرماننا حق استعمال حساباتنا في العملة الوطنية والدولار لتسديد المستحقات ومنها أجور الموظفين والمعاشات التقاعدية والتعويضات والنفقات الاستشفائية»، لم تقلّ احتداماً الأمور على جبهة خطة التعافي التي شكلت مرتكز الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي، وذلك بعدما خرجت «جمعية المصارف في لبنان» عن لغتها الديبلوماسية المعهودة، لتطلق النفير بالدعوة إلى تراص المودعين مع المؤسسات المصرفية رفضاً للخطة التي أقرّتها الحكومة في آخر جلسة دستورية لها، والقاضية بتحميل المودعين والبنوك كامل تبعات الفجوة المالية البالغة نحو 70 مليار دولار.

وورد في خطاب مباشر وجّهتْه إلى مودعيها «أبْشِروا أيها المودعون، لأن الدولة اللبنانية ألغت ودائعكم بـ «شخطة» ( شحطة ) قلم». فهذا كلّ ما تمخّض عن عبقرية «الخبراء»، على الرغم من وجود خطط بديلة واضحة، ولاسيما تلك التي اقترحتها «جمعية مصارف لبنان» والقاضية بإنشاء صندوق يستثمر، ولا يتملّك، بعض موجودات الدولة وحقوقها، ليعيد إلى المودعين حقوقهم، وإن على المدى المتوسط والبعيد.

ونوّهت بواقعة «رضيت الضحية ولم يرض الجاني»، حيث إن «الدولة تتذرع بأن هذه العائدات هي ملك للشعب ولا دخل للمودعين بها وكأن استنزاف أموال المودعين لدعم الشعب كان محلَّلاً، أما استعادة المودعين لأموالهم فهو محرّم.

أما أن يتحفنا البعض بالقول إن المداخيل المستقبلية للدولة هي ملك الأجيال المقبلة، فذلك مرفوض كون مدخّرات الآباء تعود للأجيال المقبلة أيضاً، فلا تعدموا جيلين تحت مسمى الحفاظ على مستقبل الأجيال».

وفي التقديم لهذا المسار وفق البيان الرسمي الذي عمّمته الجمعية «أبت الحكومة اللبنانية إلاّ أن تودِّع اللبنانيين بشكل عام والمودعين بشكل خاص، عبر إقرار خطة نائب رئيس الحكومة اللبنانية سعاده الشامي القاضية بتنصّل الدولة و«مصرف لبنان» من موجباتهما بتسديد الديون المترتبة بذمتهما، وتحميل كامل الخسارة الناتجة عن هدر الأموال التي تتجاوز السبعين مليار دولار أميركي إلى المودعين، بعد أن قضت الخطة على الأموال الخاصة بالمصارف».

أما في المحصّلة، فإن جمعية المصارف «تجدّد رفضها لخطة كُتِبت بأموال المودعين وأموال المصارف وهي تقف صفّاً واحداً مع المودعين لرفض هذه الخطة التي لا نهوض فيها سوى في اسمها».