
بري وجنبلاط «توأم سياسي» وثالثهما… «صندوقة أسرار»
– لا يُذكر أحدهما (بري وجنبلاط) من دون الآخَر وحلفهما الدائم لم يَنْجُ من «حرب العَلَمَيْن»
– بري نجح في الإمساك بـ «القرار الشيعي» قبل اضطراره لتَقاسُمه مع «حزب الله»
– جنبلاط المتوجّس استردّ الزعامة الدرزية بلا مُنازِع وفَتَحَ الجبل على هواء جديد
– غالباً ما تَصَرَّفَ بري على أنه صاحب «القبعة والأرانب» أما جنبلاط فالتصقتْ به صفة «بيضة القبان»
رأى الرئيس نبيه بري النور عام 1938، ووليد جنبلاط عام 1949.
السنوات الإحدى عشرة «القليلة» التي تفصل بين ولادتهما، جعلتْهما رمزين لزمن ضائع بين ما قبل الحرب الأهلية، وانفجارها، ومرحلة السلم الأهلي بعد اتفاق الطائف الأشبه بـ «الحرب الباردة»، وصولاً إلى مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما بعدها وما انطوت عليه من انقسامات وصراعات ورياح ساخنة لم تهدأ للحظة.
من أبرز الشخصيات الآتية من زمنٍ يندثر.
وُلدا في زمن الازدهار وتحوّلا قائديْن عسكرييْن بلباس مدني في زمن الحرب، ورمزيْن في زمن السلم، وصار الاسمان مرادفيْن لطبخةٍ سياسية أو لمحاولة اجتراح حلٍّ أو المراوغة والمراوحة.
واليوم مع انتخاب مجلس نيابي جديد، والاستعداد لانتخاب رئيس جديد للبرلمان، اسمه نبيه بري، وحسْم تصويت النواب الدروز له، بقيادة جنبلاط، يؤكد رئيس البرلمان والزعيم الدرزي، أن حلفهما ثابت في قلب السياسة اللبنانية.
لا يُذكر الأول من دون الثاني في كثير من المحطات السياسية.
لم يلتصق «حزب الله» كـ «ثنائي شيعي» برئيس حركة «أمل»، قدر ما التصق به جنبلاط.
نجل كمال جنبلاط، كان مقدَّراً له منذ ولادته أن يصل إلى المختارة (دارة الزعامة) وإن لم يكن يتصوّر انه سيصلها مبكراً بعد اغتيال والده عام 1977.
وريثُ الإقطاع السياسي والعائلي والطائفي، كبر في دائرة الضوء، وفي عزّ مرحلة الازدهار اللبناني، قبل أن تفجر الحرب بالبلاد وتقطعها أوصالاً.
لبس وليد عباءة الزعامة الجنبلاطية على حين غرة، وورث معها أول جولة عنف في حق المسيحيين عقب اغتيال والده.
عنفٌ وتهجير وقتْل، على وقع رصاصات اغتيال كمال جنبلاط، على يد النظام السوري كما اتهمه بعد أعوام طويلة نجله وليد. لكن الابن الوحيد لزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي عاد وتَجَرَّع زيارة دمشق بعد الاغتيال وورث تقاطعاتٍ محليةً وإقليميةً ودوليةً، جعلتْه على مفترق طرق بين أحزاب الحركة الوطنية، ومع حركة «أمل».
بري من ناحيته لم يكن وريث عائلة سياسية أو إقطاعية، بل وريث مؤسس حركة «أمل» الإمام المغيّب موسى الصدر والحركة التي صار رئيسها وانقلبت على الإقطاعيين والسياسة العائلية.
إلا أنه مع مرور الوقت وتَطَوُّر حنكته ودهائه السياسي تحوّل رمزاً من رموز الإقطاع السياسي، وأصبح على مدى أعوام طويلة ناطقاً باسم الشيعة في لبنان قبل أن يدخل «حزب الله» على خط الطائفة فتتحوّل زعامتها ثنائيةً، تفرض إيقاعها فتتوحّد الطائفة تحت رايتها.
نجما مؤتمر جنيف ولوزان، تَعَلَّما الحِرْفة السياسية بين كبارها، الرؤساء سليمان فرنجية وكميل شمعون وصائب سلام ورشيد كرامي، وبيار الجميل، وهما من الجيل الثاني بعدهم، كما الرئيس أمين الجميل، قبل أن يصيغا «الاتفاق الثلاثي» معاً مع رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» إيلي حبيقة الذي أطاح به الدكتور سمير جعجع، فيتحوّل ثالث قادة الميليشيات العسكرية، «أمل»، و«القوات» و«الاشتراكي» اللذان سبق أن تواجها في حرب الجبل التي هُجر فيها آلاف المسيحيين من الشوف وعاليه قبل أن يرعى جنبلاط عيْنه عودتهم مع صمْت المدافع.
لكن شهر العسل لم يَخْلُ من طلعات ونزلات بين «الاشتراكي» و«أمل»، فانفجرت «حرب العَلَمَيْن» في العاصمة في حضنهما (النصف الثاني من الثمانينات)، إلى أن سيطرت «أمل» على بيروت وانكفأ الاشتراكي إلى منطقة الجبل.
وما لبث جنبلاط أن التقط لاحقاً فرصة العزلة التي صارت للطائفة الدرزية، بين حربٍ مع المسيحيين ومن ثم مع الشيعة، فأعاد تحديد خياراته وأولوياته، بمرونة تُمَيزه في المنعطفات.
في هذا الوقت كان بري يعزّز موقع زعامته الشيعية من دون مُنازِع، ميدانياً، فيما كان الرئيس كامل الأسعد يواجه آخِر أيامه السياسية بعد انتخاب الرئيس بشير الجميل (1982) وانتخاب حسين الحسيني رئيساً للمجلس النيابي (1984).
وقد لعب الحسيني، الذي عاوَن الإمام الصدر في تأسيس حركة «أمل» وتَزَعَّمَها حتى 1980، دوراً محورياً في «اتفاق الطائف» الذي كان عرّابه وصائغ دستوره، إلى أن أطاح به بري في انتخابات 1992، فصار للأخير حق القول «الأمر لي» في الطائفة الشيعية.
قامت الترويكا على ثلاثية الرئيس إلياس الهراوي والرئيس رفيق الحريري وبري، لكن رئيس المجلس النيابي لم يأت وحيداً إليها، بل جاء مع جنبلاط، في تَقاطُع بين الأخير والحريري.
على مدى 15 عاماً، ظل بري وجنبلاط حليفيْن في المفاصل الأساسية وفي التقاطعات المحلية والتفاصيل الصغيرة.
دهاء الاثنين جمعهما في السراء والضراء.
في الانتخابات الأخيرة، عاود جنبلاط استخدام كل عدّته وحنكته وبراعته السياسية في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى حيث كان زعيماً منفرداً لا يقاسمه الساحة الدرزية مُنافس أو اثنان.
عَصَبُ جنبلاط انه قاد الحرب وقاد السلم في مرحلتين حساستين، واجه المسيحيين وعقد مصالحة معهم برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وتَفاهَمَ معهم في مسارٍ استقلالي أوصل في نهاية الأمر إلى «لقاء البريستول» وإلى خطاب جنبلاط العالي النبرة ضد النظام السوري قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعده.
لكن زعيم المختارة لم يقطع الخيْط الذي يربطه ببري.
شريك التفاهمات أيام الترويكا تحوّل بعد عام 2005 شريك التحالف الرباعي.
وكلاهما حاولا إقامة جسور حوار مع المسيحيين المعارضين للوجود السوري.
نجح جنبلاط، في حين أن بري ظل على توتُّره مع الأفرقاء المسيحيين، ومع بكركي، رغم محاولاتٍ قادها أعضاء في لقاء «قرنة شهوان»، إلا انه لاعتبارات سورية ومن ثم شيعية أبقى هامشاً للمناورة وللحوار إنما تحت جناحيْه وسقف المجلس النيابي، على غرار ما فعل حين دعا إلى طاولة حوار أطاحتهْا لاحقاً حرب يوليو 2006.
مع كل مأزقٍ كان بري يتصرف على أن مفتاح الحل والربط بين يديه وفي قبعته وأرانبها، ويتصرف جنبلاط على أساس انه بيضة القبان، فلا يستقيم عملُ واحدٍ من دون الآخر.
ظِلّ الرئيس رفيق الحريري كان يطغى أحياناً عليهما وإن كان شريكهما، في حين لم تساعد الظروف وريثه الرئيس سعد الحريري كي يكون ثالث الترويكا، فصار أحياناً أسيرهما وأحياناً شريكهما.
في المقابل ظل الاثنان أبرع مَن دَوّر الزوايا وتعامل مع الآخر على أنه شريك الأزمات والحلول.
حتى أحداث 7 مايو عام 2008، حين نفذ «حزب الله» عملية عسكرية في بيروت وبعض الجبل، لم تنجح في فك أواصر العلاقة بين بري وجنبلاط، فخطوط عين التينة – المختارة هي التي فككت ألغام الحدَث الأمني وسهلت الذهاب إلى اتفاق الدوحة، كما عطّلت لاحقاً كل المشكلات التي نجمت عن مواجهات في بيروت والشويفات إثر احتجاجات 17 أكتوبر 2019.
لم يلتق الطرفان على معارضة أي قوة سياسية كما التقيا على خصومة العماد ميشال عون ولاحقاً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، ومعارضة التسوية الرئاسية.
خصومتهما هي عنوان ستة أعوام هي عمر عهد عون، تُوِّجت بمراحل التسوية والحكومة والانتخابات عام 2018 و2022.
وهنا يمكن الكلام عن ثغرة وحيدة تمثّلت بعدم رضى جنبلاط على قانون الانتخاب الذي أيّده بري، فيما وقف جنبلاط أخيراً مع بري ضد التعديلات التي طرحها عليه باسيل.
انتقم جنبلاط من القانون وتبعاته وردّ على محاولة حصاره من «حزب الله» فأعاد حصْر الكتلة الدرزية في يديه.
وهو الذي أراد تصويب البوصلة الدرزية في اتجاه واحد، فَتَحَ المجال لوجه درزي من القوى التغييرية (مارك ضو)، وإن كان هو بنفسه لم يقدم وجوهاً جديدة في لائحته، فسهّل الطريق أمام وريثه الشاب تيمور جنبلاط في بثّ روح جديدة في الجبل برضاه.
في المقابل حافظ بري على حَرَسه القديم، ولم يغامر في المس برصيد الحركة التي اهتزت قاعدتها منذ انتفاضة 17 أكتوبر. مشكلة بري مع «أمل» انه بخلاف جنبلاط، لا يمكن أن يورثها إلى أي كان.
معركته في الحفاظ على الصوت الشيعي كما «حزب الله» تكمن في الحفاظ كذلك على المقاعد النيابية وعلى موقعه الحواري، كما فعل بعد حادثة الطيونة – عين الرمانة حين كسر حالة الحصار التي فرضها «حزب الله» على «القوات» في حين ظلت الخطوط مفتوحة بينه و«القوات» ولم تتحول المعركة بينهما حالة صِدامية بالمعنى السياسي الواسع.
اليوم يقف بري، الذي يبلغ 84 عاماً، قضى منها 30 عاماً في موقع الرئاسة الثانية، أمام حالة جديدة عليه في عوْدته رئيساً للمجلس مُتَوَّجاً بأصوات لم يَعْتَدْ عليها.
هو الذي عَبَرَ محطات صادمة وحساسة وحروباً وتظاهرات واعتصامات، يعود على وقع المعارضة ضده، من القوى التغييرية وأحزاب وشخصيات مستقلة.
وحده جنبلاط يحسم موقفه مرة جديدة إلى جانبه، فيعيد بذلك السياسة إلى مكانها التقليدي.
ما بين جنبلاط وبري، الكثيرُ من خفايا الحركة الوطنية والعلاقة مع سورية ومؤتمرات الحوار والوثائق، وصندوقة أسرار، ومعارك نيابية ورئاسية.
علاقةٌ عمرها ما لا يقلّ عن 40 عاماً، لن تضعها صندوقة اقتراع رئاسة المجلس على المحك.