
الحكومة المتوقّعة في لبنان أسيرة اختبارات صعبة
يُنتظَر أن يحدّد الرئيس اللبناني ميشال عون الأسبوع المقبل، موعد الاستشارات النيابية المُلْزِمة لتكليفِ شخصية تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات النيابية وما قبل الانتخابات الرئاسية (موعدها 31 أكتوبر كحدّ أقصى) والتي يتعيّن عليها إبقاء البلاد معلَّقة، في واحدة من أخطر مراحلها الانتقالية، فوق «فم جهنّم» الذي تعانِد بـ «آخِر رَمقٍ» السقوطَ المميت فيه، والتخفيف من لهيب الأزمات التي «تلتهم» الواقع المعيشي الذي بات بين فكيْ كماشةِ تَضَخُّمٍ متوحّش وسعر دولارٍ دخل مدار التقلبات اليومية العنيفة.
وفي حين أودعت الأمانة العامة لمجلس النواب المديرية العامة لرئاسة الجمهورية أمس لائحة بأسماء النواب بحسب الكتل البرلمانية والمستقلّين، فإن الكرة تكون أصبحت بالكامل في ملعب عون للإفراج عن موعد استشارات التكليف التي ستسبقها في الأيام القليلة المقبلة مشاورات بين التكتلات لتحديد الخيارات وقياس التوازنات في ضوء البروفة غير المشجّعة التي شكّلتها جلسة تشكيل «مجلس قيادة» البرلمان بالنسبة إلى الكتل التي كانت أعلنت أنها فازت بالانتخابات النيابية في 15 مايو (من قوى سيادية وتغييرية ومستقلّين) وإذ بها عاجزة عن ممارسة هذه الأكثرية، على مستوى رئاسة مجلس النواب ولا نائبه ولا أحد أمينيْ السرّ، وصولاً إلى ما يشبه «الإنزال» المباغت خلف خطوطها الذي نفَّذه ائتلاف «حزب الله» والتيار الوطني الحر وحلفاؤهما و«خطْف» أصوات وفّرتْ له الضغط على زناد «النصف زائد واحد» وبـ«الثلاثة».
وأصبحتْ الغالبيةُ «المشكوك فيها» أمام تحدٍّ مزدوجٍ لمعاودة تظهير «أصل وجودها»، سواء في محطة انتخابات اللجان النيابية يوم الثلاثاء المقبل، ورئاساتها أو في استشارات التكليف المرجَّحة بعدها، فإما تُثْبِت أنها قائمة وإما توضع نقطة على آخر سطر «أقصر ولايةٍ» لأكثرية لم تترجم نفسها في أي من المفاصل والاستحقاقات السياسية والدستورية، وذلك بمعزل عن كل الكلام عن غالبية يتبدّل «دولابها» وقد تكون يوماً مع فريق ويوماً على آخَر.
وفي هذا الإطار تستمرّ المشاورات داخل تكتلات الغالبية المفترضة وبين بعضها البعض في محاولةٍ لملاقاة امتحان ما بات بمثابة «لجان فاحصة» في جلسة البرلمان الثلاثاء المقبل، وأيضاً توفير أرضية مشتركة للذهاب إلى استشارات التكليف باسمٍ واحد، وهو ما يستدعي إيجاد «تَصالُحاتِ» بين مِفاهيم يُخشى أن تتحوّل كابحةً لأي مسعى لتصحيح التوازن السياسي الداخلي وسحْبه من يد «حزب الله» و«التيار الحر» وشكّلت أحد أسباب الإرباك الذي رافق انتخاب رئيس البرلمان ونائبه وأعضاء هيئة المكتب وأتاح لخصوم الأكثرية الجديدة اللعب على تناقضاتها والنفاذ منها لـ «تنفيس» تَفَوُّقها العددي والسياسي.
ولعلّ أبرز هذه «التصالحات» القدرة على التوفيق بين منطق القوى التغييرية التي تعتبر نفسها غير معنية بالاصطفافات التقابُلية بين معسكريْ 14 و8 مارس بوصْفهما من أبناء «المنظومة نفسها» ولا خوض معاركهما والتحوّل «بنادق» لأي منهما، وبين اعتبار نفسها رافعة لغالبيةٍ وليدة «التحقت» بها في جلسة مجلس النواب الثلاثاء الماضي وصوّتت للنائب غسان سكاف لمنصب نائب الرئيس بوجه النائب إلياس بوصعب (مرشّح تكتل النائب جبران باسيل)، وسط سؤالٍ كبيرٍ حول كيف سيدير تكتل التغييريين (13 نائباً) مواجهاته بحال لم يوفّر عناصر قوة لها تتيح إضعاف «مركز الثقل» الأساسي الذي يجرّ لبنان إلى القعر الذي لا قعر تحته، من دون أن يكون ذلك بالضرورة لمصلحة تعزيز القوى الحزبية في الأكثرية التي خرجت برمّتها مهشَّمة في أول اختبار لها.
وفي مقلب «حزب الله» والتيار الحر، فإن الصورة لا تقلّ دقة لجهة الحاجة إلى تأكيد «الترسيمات السياسية»، التي صاغها الحزب بـ«ميزان الجوهرجي» في جلسة تكوين المطبخ التشريعي، وحرمان خصومه سواء بقوة معاودة تجميع رقم النصف زائد واحد أو نتيجة «تجزئة» الغالبية النظرية إلى أقليات، تحقيق أي انتصاراتٍ تعكس تبدلات عميقةً في التوازنات السياسية ما خلا مظاهر اللعبة البرلمانية الجديدة المرشّحة لتطبع مختلف المحطات والجلسات النيابية بما يُنْذِر بـ«متاعب» أكثر له في إدارة نفوذه الذي تراجَع بالتأكيد في الحصيلة العامة.
وإذ يسود رصْد للاسم الذي سيرشّحه مثلث القوى السيادية والتغييرية والمستقلين وهل سيكون بإمكانهم الاتفاق على مرشّح مثل نواف سلام أو آخر من صفوف التغييريين أو المستقلين، تتقاطع مؤشرات عدة عند أن «حزب الله» لا يمانع عودة الرئيس نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة في مرحلةٍ حساسة يُعْلي فيها الشأن المالي على ما عداه لدرجة رغبته في إشراك جميع القوى السياسية في حكومة وحدة وطنية لإرساء «شراكة في إدارة الانهيار»، ولا سيما أن ميقاتي سيكمل ما بدأه في إطار محاولة وضْع لبنان على سكة فرملة السقوط الحرّ ولن يكون ينطلق «من الصفر» في ملفاتٍ تَطَلَّب الإقلاع فيها أشهراً منذ ولادة حكومة تصريف الأعمال الحالية في سبتمبر 2021.
وفي حين حسمت قوى الغالبية المعلَّقة أنها لا يمكن أن تقبل بحكومة وحدة وطنية رافعة شعار «لتحكم الأكثرية ولتعارض الأقلية»، فإن عدم توصلها لتفاهم أولاً على مرشح أو عدم قدرتها على إيصاله، سيعزز حظوظ الرئيس ميقاتي، الذي يُبْدي إشارات إلى أنه غير متحمّس لحكومة «كيفما كان» وسط انطباعٍ بأن قبوله «المهمة الانتحارية» في جولتها الثانية سيتطلّب المزيد من الضمانات حيال تنفيذ الإجراءات المسبقة والإصلاحات الشرطية لتطوير الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي وإبرامه النهائي.
وهذه الضمانات ستبقى رهن مقاربة «التيار الوطني الحر» خصوصاً لاستحقاق الحكومة والرهانات التي يضعها عليها بوصْفها ستتحوّل رئاسية ما أن تنتهي ولاية عون في 31 أكتوبر المقبل من دون انتخاب رئيس جديد.
وفي هذا الإطار ترتسم سيناريوات عدة في ما خص الملف الحكومي:
• إما تنجح الغالبية الخارجة من صناديق الاقتراع في مفاجأة الغالبية التيركّبها «حزب الله» في إيصال رئيس مكلف فتصبح «شريكة» في كل المرحلة الفاصلة عن تأليف قد لا يحصل وعن شغور رئاسي شبه محسوم أن يقع ولا أحد يمكن أن يتكهن بمداه الزمني.
• إما ينجح «حزب الله» في تكرار «ضغطه»، الذي أتاح إمرار استحقاق انتخاب رئيس البرلمان ونائبه وهيئة المكتب وفق أولوية حفظ التوازن الكبير «وتوزيع حصصه» بين حلفائه على حساب «الصراعات السُلطوية» الضيقة، فيدفع «التيار الحر» وباسيل تحديداً لعدم وضع الحكومة في «ميزان» الانتخابات الرئاسية وترْك هذا الاستحقاق لوقته و«حساباته»، ما قد يعني تكليف ميقاتي مجدداً والسماح له بمعاودة العمل بالقسم الأكبر من فريق العمل نفسه الذي يشكّل حكومته الحالية، فيضع ميقاتي سريعاً تشكيلته وتصدر مراسيمها وتذهب إلى البرلمان لنيل ثقة قديمة – جديدة.
وهذا السيناريو يقتضي، أن يسلّم باسيل بعدم تعديل توازنات الحكومة الحالية ومحاولة الإمساك بثلث معطّل صريح فيها بحساب حجز موقع متقدّم له في «الحكومة الرئاسية»، وأيضاً ترقُّب إذا كان رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط في وارد المشاركة ضمناً فيها، علماً أن مشكلة أخرى تطرحها خسارة النائب طلال ارسلان الانتخابات بما يجعل التمثيل الدرزي بحال أراد جنبلاط الحضور في الحكومة «المعوَّمة» محصوراً به (وزيران).
• إما أن يصرّ باسيل على «دفتر شروط» في ما خص شكل الحكومة (أن تكون سياسية) والحصص، كما إقصاء حاكم مصرف لبنان وتعييناتٍ أساسية، وذلك كمدخل لتسمية ميقاتي أو لمنح حكومته الثقة لاحقاً (تكتل باسيل لم يسم ميقاتي في يوليو الماضي ومنح حكومته الثقة)، ما قد يعرقل مجمل عملية التكليف التي لا بد من أن يلتحق بها التيار الحر هذه المرة لضمان عدم فوز مرشحٍ من الغالبية الجديدة، أو يضع مسار التأليف بعده (بحال نجح حزب الله في فصل مساريْ التكليف والتأليف) أمام مرحلة مفتوحة يكون فيها ميقاتي الرئيس المكلف ورئيس حكومة تصريف الأعمال.
• أما سيناريو أنه في حال تعذّر التوصّل إلى أي تسوية في الموضوع الحكومي فقد يصار لتجديد الثقة بالحكومة الحالية من خلال طرح الثقة بها أمام المجلس الجديد مع إدخال تعديلات على بيانها الوزاري، فيبدو «خارج السياق» الدستوري بالكامل ومن باب «رفع السقوف» والتحدي لأنه أقرب إلى «هرطقة دستورية».
ولم يكن عابراً ما نُقل عن أوساط ميقاتي من أنه إذا كان لا بدّ من أن تُسند إليه أي مهمة جديدة كتلك السابقة فإن له شروطه، وأولها ضرورة اقتناع الجميع بأن الأمور في حال استمرارها على هذا المنوال آيلة إلى المزيد من التعقيد والتأزم، وثانيها التزام الجميع، إلى أي محور انتموا سياسياً، بأن ثمة أولويات يجب معالجتها في أسرع وقت، وهي وضع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي موضع التنفيذ، والشروع فوراً في البدء بتطبيق خطة الكهرباء، فضلًا عن السير بخطة التعافي مع ما تفرضه من إجراء الإصلاحات الضرورية والمستعجلة.
في المقابل استوقف أوساطاً سياسية كلامُ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي أعلن رفضه تكليف «أي شخص متحالف مع (حزب الله) لمنصب رئاسة الحكومة»، وقال:»إذا حكومة مثل العادة مع الكل أكيد ما منوافق وما منشارك»، مفضلاً في الوقت عينه التريث في تحديد الموقف إزاء احتمال إعادة تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال، وأضاف: ما ينبسطوا كتير (حزب الله) والانقسامات في البرلمان ستؤدي إلى مواجهة كبيرة بين حزب الله وحلفائه من جهة وحزب القوات من جهة أخرى».
وفي موازاة ذلك برزت أول إطلالة خليجية على الواقع اللبناني بعد الانتخابات، حيث رحّب مجلس التعاون الخليجي بنجاح العملية الانتخابية في لبنان، متطلعاً «لقيام أعضاء مجلس النواب المنتخب وكل القوى السياسية في لبنان بالعمل على تحقيق تطلعات الشعب اللبناني في الاستقرار والتقدم والازدهار».
وفي تثبيت للسقف السياسي الذي يحكم مقاربة الوضع اللبناني انطلاقاً من الإصلاحات التقنية والإصلاحات السياسية (وضعية «حزب الله»)، ذكرت دول الخليج لبنان بوجوب «التعاون البنّاء مع المنظمات الدولية وتنفيذ الإصلاحات اللازمة ومكافحة الفساد وسوء الإدارة، وضمان ألا يكون منطلقاً لأي أعمال إرهابية أو حاضنة للتنظيمات والجماعات الإرهابية التي تستهدف أمن واستقرار لبنان والمنطقة، وألا يكون مصدراً لتهريب المخدرات».