
الترسيم: منعطف بالغ الأهمّية سياسياً واقتصادياً
حين يقول الوسيط الاميركي آموس هوكشتاين إنه لا يزال متفائلاً بإحراز تقدم نحو اتفاق ويتطلع للعودة إلى المنطقة للتوصل إلى “ترتيب نهائي” كما قال، فإن المسألة لا تكمن في العودة الى الناقورة كما كان قال الرئيس نبيه برّي قبل وصول هوكشتاين بساعات قليلة، بل تتعلق بمكوكية ديبلوماسية يقوم بها الوسيط الاميركي، كما تتعلق بتنفيس الضغط الحربي الذي استحدثه “حزب الله” أخيراً على هذا الصعيد.
والديبلوماسية المكوكية هي العنصر الجديد الذي استجدّ على الملف في وقت كان فيه المسؤولون اللبنانيون في أجواء استئناف المفاوضات بين لبنان وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة ووساطة أميركية في الناقورة. ما الذي تغيّر في موقف لبنان بحيث يؤدّي الى نجاح المفاوضات أو إشاعة المسؤولين اللبنانيين أجواءً إيجابية شبه حاسمة في هذا الاتجاه على نحو أربك “حزب الله” في التفاؤل الذي تمّ تعميمه مستبقاً تهديداته؟ وما الذي تغيّر في موقف إسرائيل بما من شأنه أن يؤدّي الى نجاح المفاوضات بينها وبين لبنان حول ترسيم الحدود البحرية فيما الأجواء قبل شهر تقريباً لم تكن بهذا التفاؤل وهذه الإيجابية؟
يثير معنيون هذه الأسئلة من باب الاقتناع بأن لا عناصر جديدة كثيرة يمكن أن يضعها الوسيط الأميركي على الطاولة بمقدار ما يعتمد على مرونة يبديها كل من الطرفين المعنيين أي لبنان وإسرائيل بحيث تسمح بالوصول الى الاتفاق المرجوّ. ولكن في الموقف اللبناني يرى هؤلاء إمكان السير نحو ترسيم الحدود البحرية خطوة بالغة الأهمية نظراً الى تداعياتها السياسية الكبيرة جداً لا الاقتصادية فحسب وما يمكن أن تشكله من منعطف سياسي بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى في ظل افتراض البحث عن النقاط المضمرة في أيّ اتفاق محتمل. فالتهديدات التي ساقها “حزب الله” تساق من ضمن قدرته الهائلة على العرقلة وعدم تسهيل الوصول الى اتفاق لم يعد يتعلق بإسرائيل وحدها بل يتعلق بمصلحة الولايات المتحدة كما مصلحة أوروبا بالحصول على مصادر طاقة بديلة من الطاقة الروسية. فمن جهة، من كان ليعتقد أن في استطاعة لبنان الذي عاش لأعوام طويلة في ظل الوصاية السورية وما بعدها على معادلة “وحدة المصير والمسار” بين لبنان وسوريا أن يفصل أموره من أجل أن يستطيع أن ينهض اقتصادياً بعد الانهيار الكارثي الذي أصابه. فهذا أمر بالغ الأهمية وقد تم تطويع اللبنانيين وقمعهم وحتى ترهيبهم تحت هذا العنوان بغية عدم التفكير بالخروج عما تقرّره سوريا لنفسها وتبيع لبنان من ضمن أيّ صفقة تعقدها، فيما “حزب الله” الذي تسلم مكان سوريا في لبنان بات معنيّاً بالنيابة عن إيران وبالأصالة عن نفسه بالبيع والشراء في هذا الملف فيما سوريا باتت كأنما لا صلة لها بما يحصل من ترسيم للحدود بين لبنان وإسرائيل، ولو أن السلطة في لبنان التي ستوقع على هذا الاتفاق في حال إنجازه هي سلطة حليفة للنظام وليست معادية له. ولكن المتغيرات الكبيرة التي طرأت على سوريا بالذات كما في المنطقة وحتى في العالم، باتت تفرض معادلات جديدة بعيداً من تلازم المسارين اللبناني السوري اللذين يبقيان مرتبطين على الأرجح برفض لبنان التطبيع مع إسرائيل على الأقل حتى حصول جديد في شأن سوريا. ولكن الغطاء راهناً بات يؤمنه الحزب للمضيّ في مرونة إزاء هذه المعادلة.
ومع أن مصادر ديبلوماسية تصرّ على اعتبار الموضوع حصرياً بين مصالح كل لبنان وإسرائيل، فإن مراقبين لا يفصلون هذا الملف واحتمال التوصّل الى تسوية فيه عن تسوية أكبر تتصل بما يجري على مستوى الاتفاق النووي وتقاسم النفوذ بين إيران بوكالتها عن لبنان وحتى عن نفسها وحتى عن الكباش مع روسيا على خلفية العقوبات في موضوع الطاقة وبين الولايات المتحدة بالنيابة عن أوروبا وإسرائيل وفي السعي الى تأمين مصادر الطاقة.
أيّ اتفاق محتمل على ترسيم الحدود بات أكثر قرباً مما كان أثناء الزيارة السابقة للوسيط الأميركي في شهر حزيران حين لم يكن لبنان أكثر قرباً من الوصول الى اتفاق على الترسيم من أي وقت سابق على حد قول أحد مسؤوليه، بات عنواناً لمنعطف كبير يمكن أن يسهم به الحزب سلباً أو إيجاباً. ومن غير المستبعد بحسب هؤلاء المعنيين، حتمية فتح أحد أبرز الجوانب لملف ترسيم الحدود البحرية من زاوية مدى تأثير ذلك على مصير سلاح “حزب الله” ومحدودية المجال تالياً أمام توظيفه كلما رأى الحزب ذلك مناسباً متى قرر لبنان الاستفادة من موارده البحرية وصولاً الى الحصص الطوائفية من الثروة البحرية الموجودة في الجنوب في شكل أساسي والذي سعى الحزب الى تكريس حصرية تحكمه بمعبر الناقورة كما جرى مع المطران موسى الحاج مثلاً، بالإضافة الى الترويج لفاعلية سلاحه وتهديداته في تأمين حقوق لبنان من الثروة البحرية.
ولكن الإشكالية الأهم أن الدول المعنيّة ليست على استعداد لمساعدة لبنان اقتصادياً وتبرير ذلك أمام الرأي العام لديها فيما لا يظهر استعداداً لحل لترسيم الحدود يتيح له الاستفادة من ثرواته، كما أن ثمة دولاً تفتقر الى أدنى القدرات للمساعدة فيما شعوبها تعاني ايضاً وتحتاج الى المساعدة القصوى.