«فراغ الضرورة» ينتظر مقايضات اللاعبين الكبار على «لبنان الغارق» كقوارب الهاربين من الجحيم

«فراغ الضرورة» ينتظر مقايضات اللاعبين الكبار على «لبنان الغارق» كقوارب الهاربين من الجحيم

الكاتب: رلى موفّق | المصدر: القدس العربي
2 تشرين الأول 2022

لم يكن مركب الهاربين، الذي انطلق أخيراً من شمال لبنان وغرق قبالة طرطوس السورية وقضى على متنه أكثر من مئة شخص، مجرد حادثة مؤلمة تصادف أحياناً المهاجرين غير الشرعيين في المتوسط وسواه.
المركب، الذي انقلب وغرق بسبب أعطاله وحمولته الزائدة يُشبه حال لبنان وما حلَّ به وما ينتظر البلاد الغارقة في بحر جارف من الأزمات الهائلة والهادرة.
ففاجعة المركب الأشبه بـ«مجزرة» والحكايا المأسوية من الموت الرهيب في عراء البحر، تنطوي على رمزيات كثيرة، أقرب ما تكون إلى مفتاح لحل لغز المصير المشؤوم الذي يفترس الوطن الصغير ومآلاته الغامضة. هاربون لشدة الفقر من مدينة الملياردريين، أو بدفع مركبهم من الخلف لتواطؤات تتصل بملف النازحين وهز العصا للأوروبيين… الأمر سيّان في تعريته للواقع اللبناني وانهياراته تحت وطأة حمولته الزائدة من الصراع الإقليمي – الدولي فيه وعليه وأعطاله الداخلية التي أنتجت تشوّهات في أدوات عمل النظام وفساد شرّه أقرب إلى المافيوية قاد إلى الإفلاس.
والمفارقة، التي قد تبدو تبسيطية وساذجة، أن لبنان المتهالك تحت نير أزمات هائلة، مالية، واقتصادية، ومعيشية، واجتماعية وعلى كل المستويات، أظهر عبر ممثليه في البرلمان خفّة لا سابق لها حين بدأ يلهو في جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية تحوّلت إلى ما يُشبه مسرحية في إخراجها وأحداثها وحصيلتها.
المسلمة البديهية أن بلاداً تغرق، كقوارب الهاربين من جحيمها، لن تفوِّت فرصة فرملة الانحدار إلى ما دون القعر عبر المسارعة إلى انتخاب رئيس لقلب الصفحة والانتقال إلى عهد جديد، أقله لإحداث صدمة إيجابية، غير أن ما يجري التسليم به هو أن لبنان يتجه نحو فراغ جديد.
فالخلاصة الأهم لأول جلسة لـ«لا انتخاب» رئيس للجمهورية هي أن اللاعبين المحليين يجدون في التوازن السلبي الذي يحكم البرلمان وانقسام المعارضة أو عدم انسجامها والخلافات المتروكة في صفوف الموالاة، فرصة للعبور إلى الفراغ بانتظار ما ستؤول إليه المقايضات أو المواجهات بين اللاعبين الإقليميين والدوليين في المنطقة التي تصحو على شيء وقد تغفو على شيء آخر.
ولم يعد خافياً أن الخريطة الجيو-سياسية، التي جعلت لبنان في «الحضن الإيراني» ما تسبّب بعزلته وانفجار أزماته، يقف الآن تبعاً لاستحقاقاته (انتخاب رئيس جمهورية وتأليف حكومة جديدة) أمام منعطفات هي الأخطر في تاريخه، بعدما دهمته أزمة مالية هي ثالث أسوأ أزمة مالية عالمية منذ ثلاثة قرون، وتعالت التحذيرات، ولا سيما الدولية، من الخطر على كيانه وزواله.
ولعل التطوّر الأبرز في هذا السياق ما شكّله البيان المشترك الأمريكي – الفرنسي – السعودي، الذي أعقب لقاء بعض وزراء خارجية الدول الثلاث في نيويورك، من مقاربة «عالية السقف» للواقع اللبناني مع العدّ التنازلي لانتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في 31 الشهر الجاري، وهو البيان الذي يحلو للبعض في بيروت مساواته بما انطوى عليه القرار الدولي 1559، الذي أسَّس لنهاية الوجود العسكري السوري في لبنان.
فـ»النص المرجعي» لموقف الدول الثلاث دعا إلى انتخاب رئيس للجمهورية في الموعد المحدد وقيام حكومة تلتزم الإصلاحات السياسية والمالية تبعاً لما يُمليه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتنفيذ القرارات الدولية (1559 – 1701 – 1680 – 2650) والتقيّد باتفاق الطائف، وإلى قيام القوى المسلحة اللبنانية بمسؤولياتها، انضم إلى تراكم من المواقف والمبادرات وإعلانات نيات تنطوي جميعها على مقاربة موحدة، رغم تمايزاتها، لسبل إنقاذ لبنان.
فمن لقاء جدة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى البيانات المشتركة التي صدرت عقب جولة قام بها بن سلمان على عواصم دول خليجية وصولاً إلى المبادرة الكويتية كان واضحاً أن الشرعيتين العربية والدولية تتحدثان بـ«لغة واحدة» حيال «القفل والمفتاح» عن المأزق التاريخي الذي يئن تحت وطأته لبنان.
ورغم الانشغال الدولي – الإقليمي بحرب أوكرانيا وتداعياتها القاسية وما اندفع إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من محاولة لما يشبه «إعادة انتشار» أيقظت الكلام عن حرب عالمية ثالثة، ما زال لبنان على رادار الاهتمام الأمريكي – الفرنسي – السعودي من خلال دبلوماسية هدفها تخفيف قبضة إيران على بلاد الأرز للحؤول دون سقوطه الكلي تحت وطأة هيمنة «حزب الله» على قراره والتآكل المتمادي لمؤسساته.
وإذا كانت فرنسا تحاول على طريقتها إدارة العلاقة مع لبنان واللاعبين فيه لاعتقاد ماكرون، رغم خيباته، بأنه الأقدر على اقتناص أدوار في لبنان، إلا أن إيران وأذرعها غالباً ما لا تُقيم وزناً للدور الفرنسي لإدراكها أن الحل والربط لا يستقيم إلا مع الولايات المتحدة الأمريكية بعدما فقدت القارة العجوز وزنها الدولي.
وإذا كان الائتلاف الإقليمي – الدولي الداعم لإنقاذ لبنان لسان حاله «ساعدوا أنفسكم لنساعدكم» انطلاقاً من المقاربة السعودية التي تقول إن «الأزمة في لبنان وليس معه»، فإن ثمة اقتناعاً لدى الدوائر الديبلوماسية بمحدودية دور القوى المحلية، من خصوم «حزب الله» في إحداث التغيير المنشود، الأمر الذي من شأنه تمديد المتاهة اللبنانية المفتوحة على فراغ رئاسي وربما فوضى دستورية وأمنية.
لم يعد خافياً أن «حزب الله» فَقَدَ الغالبية في البرلمان، التي فاخر بها يوماً قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وهو يدفع راهناً بمركب الفراغ من الخلف لأسباب بعضها إقليمي يتصل بإبقاء الورقة اللبنانية في الجيب الإيراني في لحظة المقايضة مع الولايات المتحدة حول الملف النووي، وبعضها داخلي يرتبط بعدم قدرته على إيصال مرشحه المفترض رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية «على البارد» إلى الرئاسة نتيجة صراعات داخل معسكره من جهة والتوازن السلبي في البرلمان من جهة أخرى.
فرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل لم يُسلِّم بعد بأن حظوظه في الوصول إلى بعبدا تبدو معدومة في ظل عقوبات أمريكية فُرضت عليه وقطعت طريقه إلى الرئاسة، وهو يعتبر أن الذهاب إلى فراغ رئاسي قد يُفضي الى معطيات وظروف خارجية ربما ينجح في توظيفها لصالح تحقيق طموحه السياسي.
على أن ثمة مَن يعتقد أن الفراغ الذي يمكن أن تملأه اضطرابات اجتماعية وربما أمنية سيكون قادراً على إنهاك الجميع، وتالياً الإتيان بهم «على الحامي» إلى خيار على طريقة «الشر الذي لا بدَّ منه». هذا السيناريو يبدو الأكثر توقعاً وسط الانسداد السياسي والكلام الذي يطفو على السطح عن ضياع فرصة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي نتيجة رفض القوى السياسية من تحت الطاولة لوصاية «الصندوق» التي تُصيب مصالح هؤلاء في العمق.
فحتى الرهان عن قرب ترسيم الحدود مع إسرائيل وبدء العد العكسي في مسيرة استخراج النفط من بحر لبنان أضحى مفتوحاً على إعادة حسابات مع ارتفاع حظوظ عودة بنيامين نتنياهو إلى تصدّر المشهد السياسي، وسيكون لفقدان ورقة النفط تأثيراتها السلبية الحادة التي – في نظر المراقبين – ربما تُفسّر الواقعية التي يُظهرها «حزب الله» في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي عبر استخدام لغة التوافق والحاجة إلى التوافق لمجيء رئيس تسوية بمعزل عن الحسابات الإيرانية الصافية، وذلك لاعتبارات تتعلق بالحاجة إلى طمأنة الخارج لفك العزلة عن لبنان، ذلك أنه لن يكون بمقدوره أن يتحمّل لوحده تبعات الإتيان برئيس يُبقي لبنان في القعر، حيث هو الآن.