
ترهّل الدولة ينعكس مبادرات لحماية المناطق أمنيّاً
بدت مبادرة “عيون الأشرفية” مثيرة للتوقّف عندها على نطاق المجالس السياسية والأمنية، بعدما أُطلقت تحت عنوان حماية أهالي المنطقة وإعادة الاطمئنان إلى نفوسهم في ظلّ تقصير الدولة في تأمين الأمور الأساسية، وفق تأكيد النائب نديم الجميّل، الذي أشار إلى أنّ المشروع لا يرتبط بالعمل الميليشيويّ أو الأمن الذاتي، وإنما انطلق بناءً على طلب أهالي الأشرفية.
وعملياً، تعتبر الخطوة جديدة من نوعها وأشبه باضطلاع السكان بدور “حراس محليين” و”رجال أمن” في شوارع إقامتهم. وتأتي فكرة مماثلة كمؤشر واضح على الضعف المعتري مفاصل الدولة اللبنانية نتيجة الواقع الاقتصادي المتردي بالنسبة إلى مقاربة أمنيين، علماً أن الأشرفية كانت الأولى في اتخاذ هذه المبادرة بالتنسيق مع الأجهزة الامنية.
وهي ظاهرة تقتصر على هذا الجزء من مدينة بيروت حتى الساعة، ولم تستطلعها الأوساط الأمنية في محافظات إضافية، لكن الأصداء حولها بدأت تتردد في أرجاء المناطق وصولاً إلى الشمال اللبناني، بما يمكن أن يشجّع فعاليات أُخرى على اتخاذ مبادرة مشابهة خصوصاً إذا استمرت تنعكس ايجاباً على صعيد ردود الفعل. وتشير معطيات “النهار” إلى أن مبادرة الحراسة والمراقبة الامنية جرى تأمين تكاليفها ونفقاتها من مجموعة متمولين في الأشرفية. وهي تغطّي تحديداً حتى الآن المساحة الواقعة بين منطقة السوديكو وصولاُ إلى خلف ساحة ساسين. وتدير المبادرة جمعية ذات طابع اجتماعي عملت على توظيف مجموعة من الأشخاص الذي يمثلون نسيج المنطقة. ولا يغطّي عديد الموظفين كامل النطاق الجغرافي لغاية اللحظة، وهم يتولون أدوار الاستطلاع انطلاقاً من رقعة تواجدهم والأحياء التي يعيشون فيها. وعموماً، تكوّنت انطباعات لدى حاضرين في المنطقة مفادها أنها بمثابة مبادرة ايجابية ذات طابع محلي من المبكر الحديث عن تقويم نتائجها؛ مع تمنيات بزيادة عديد العناصر المولجة التعاون مع القوى الأمنية لئلا تظهر محاذير لجهة أن تواجه المنطقة مخاطر أمنية أكبر من القدرة على استيعابها مع الاشارة إلى أنّ الذين يتولون مهمات الحماية من المواطنين وليسوا أمنيين.
ماذا في قراءة نواب وفعاليات المنطقة حيال اتخاذ مبادرة محلية بهدف تحصين المعطى الأمني في الأشرفية؟ يقول النائب غسان حاصباني لـ”النهار” إن “هذه الخطوة طالما أنها للتنسيق مع القوى الأمنية وحركة أهلية يتشارك فيها أهل المنطقة، فإنها تجربة يمكن النظر لها كما يحصل على نطاق بعض العواصم الأوروبية كلندن مثلاً حيث يتعاون أهالي المناطق وسكان الشوارع مع عناصر الشرطة للإبلاغ والتعاون كخطوة تصبّ بالاتجاه الايجابي. وقد أخذت هذه الخطوة التعاونية بعض الملاحظات الخارجة عن سياق الطابع الذي قامت لأجله، باعتبار أنها لا تصنّف في خانة الأمن الذاتي وليست سوى عبارة عن أشخاص موكلين بمساعدة القوى الأمنية في حال حصول إشكالات خصوصاً أثناء فترة الليل”. وبدوره، يكتفي النائب جان طالوزيان القادم من خلفية أمنية بالإشارة لـ”النهار” إلى إنه “إذا نفّذت الفكرة بالشكل الصحيح فإنها خطوة جيّدة جداً”.
في الدلالات، تعكس ظاهرة اللجوء إلى حراسة شخصية للمناطق ضعفاً في قدرة الدولة على اتخاذ مهمة مماثلة على عاتقها وحدها. فهل بدأت انعكاسات الانهيار الاقتصادي تتمدّد بشكل أكبر؟ يقوّم الوزير السابق مروان شربل لـ”النهار” الأوضاع الامنية في لبنان انطلاقاً من تأكيده أن “الأجهزة الأمنية لم يعد في مقدورها القيام بواجباتها بسبب ضآلة عديد عناصرها العسكرية، بعدما مضت سنوات على غياب التطويع في قوى الأمن ودخول عسكريين سنّ التقاعد ومغادرة آخرين السلك العسكري بسبب الاوضاع الاقتصادية. وباتت مسألة الحراسة الأمنية التي يتخذها المواطنون على عاتقهم ممكنة وسط الظروف الراهنة بالتعاون مع القوى الامنية، أما اللجوء إلى حمل السلاح والأمن الذاتي وإقامة الحواجز فإنها مسألة غير مقبولة”. ويوضح شربل أن “مقومات وجود الدولة تتمثل في الأمن والقضاء والاقتصاد الوطني، وهي عناصر ثلاثة لم يستمرّ منها اليوم سوى وقوف الأجهزة الأمنية على رجليها. وتُعتبر الدولة غير موجودة وتبدأ عملية بنائها بانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة هيكلة المؤسسات والقطاع المصرفي، في وقت لا أموال لتحفيز المواطنين على التطلع لدخول المؤسسات العسكرية. ويتمثل الحل الوحيد بالانطلاق من انتخاب رئيس جديد للجمهورية بما يساهم في بداية تنفّس اللبنانيين الصعداء والمباشرة في المعالجات”.
وإذ تتصاعد الهواجس من استمرار المسار التحلّليّ للدولة ومؤسساتها التي تنازع للبقاء، فإنّ هناك من لا يستغرب تكاثر المبادرات الهادفة إلى الحماية الشخصية للمناطق بدءاً من الحراسة والرقابة، ووصولاً إلى الأمن الذاتي إذا ازدادت حال الترهّل المؤسساتي خصوصاً أن تجربة “حزب الله” مع الادارة الامنية الذاتية تعكس أسلوباً قائماً في جزء من الأراضي اللبنانية. وفي السياق، يضيء الخبير العسكري نزار عبد القادر لـ”النهار” على أنه “لو كانت مسألة “حزب الله” متعلقة بالأمن الذاتي فحسب، فإن الوضع كان يمكن أن يكون أسهل مما هو عليه؛ لكنّ “الحزب” يعمل عبر ممارساته أو من خلال حلفائه على السيطرة على كافة المناطق ويتّكئ على الشرعية اللبنانية شرط أن يكون الحاكم الفعلي لها. ويصعب الوصول إلى حلول من دون انتظار برهة دولية كتلك المتخذة مع صدور القرار 1559، بما يساهم في استهداف نفوذ إيران في المنطقة ويعيد بناء الدولة التي أدّى سلاح “حزب الله” بشكل كبير إلى هدمها وإفشالها خصوصاً في مرحلة 2006 بعدما دفع لبنان باتجاه حرب لا علاقة له بها ومروراً بأحداث أيار 2008. وحينذاك بدأ انهيار الدولة وصولاً إلى حال اللادولة الآن”. ويستنتج عبد القادر أنه “بعدما ضعفت الدولة وبات لدى الناس هواجسهم الكبرى للعمل على حماية ممتلكاتهم، فإن الاحتكام إلى تعزيز الحماية الشخصية كما في الأشرفية يأتي على طريقة “مجبرٌ أخاك” تحصيناً للأمن. وكذلك، تشكّل هكذا مبادرات أسلوباً للفت النظر والردّ على فائض قوة “حزب الله” للقول إن الشعب اللبناني متعب وتواق إلى استعادة حريته وأمنه من خلال بدء إقامة ما هو أشبه بالأمن الذاتي في المناطق. وإذا لم يستقِ “الحزب” العبر بعد خسارته الأكثرية النيابية وإصراره على الاتيان برئيس يسخّر إمكانات الدولة ومؤسساتها لتأمين مشروعية لمصلحته، قد نشهد حماية ذاتية للمناطق في مراحل مقبلة”.