
ستّة مسارات ستحدد شكل الاقتصاد العالمي في 2023
يلجأ المشاهدون في بداية كل عام –من باب التسلية في أغلب الأحيان- لمتابعة توقّعات المنجمين وعلماء الفلك، الذين يذهب بعضهم إلى تنبّؤ وقائع وتحوّلات سياسيّة واقتصاديّة معيّنة ستطرأ على العام المقبل. في الواقع، وفي ما يخص الاقتصاد بالتحديد، يمكن بمراجعة بسيطة لتحوّلات العام الماضي أن يحدد المرء أهم المسارات التي ستتحكّم بشكل وتطوّرات الاقتصاد العالمي خلال العام المقبل، وهو ما يمكن أن يغني المرء عن ذلك النوع من النبوءات غير العلميّة.
الصين ما بعد “صفر كوفيد”
ابتداءً من الثامن من كانون الثاني الحالي، من المفترض أن تنهي الصين سياسة الحجر الصحّي المفروضة على الوافدين إلى البلاد، في خطوة يفترض أن تمهّد للخروج التدريجي من سياسة “صفر كوفيد” على مدى الأشهر المقبلة. تخلّي الصين عن هذه السياسة، سيعني عودة معدلات الإنتاج للارتفاع، بعدما أعاقت إجراءات الإقفال المستمرّة تعافي الاقتصاد الصيني خلال العام 2022.
لكن هذا التطوّر، سيعني أيضًا ارتفاع سريع في الطلب على مصادر الطاقة والمواد الأوليّة، ما سيسهم بدوره في إضافة ضغوط تضخميّة جديدة على الأسواق العالميّة. لهذا السبب بالتحديد، ستسهم تطوّرات هذا المسار خلال العام 2023 بالتأثير على عاملين في الوقت نفسه: نسبة النمو في الاقتصاد العالمي، وأسعار النفط والغاز والمواد الأساسيّة. أما حجم هذه الآثار، فستتوقّف على سرعة رفع سائر القيود المرتبطة بسياسة “صفر كوفيد”.
صعود الهند السريع
خلال شهر نيسان المقبل، من المفترض أن يتجاوز عدد سكّان الهند مثيله الصيني، لتصبح الهند الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد سكّان. ومن حيث القوّة الديموغرافيّة، لن تقتصر إمكانات الهند على عدد السكّان فقط، بل على بنية الأعمار، وتوسّع نسبة الشريحة الشابّة.
هذا التطوّر بالتحديد، يأتي مصحوبًا اليوم بخطوات متسارعة تسعى من خلالها الهند للتحوّل إلى قطب اقتصادي أساسي على المستوى العالمي، بعد أن تمكنت خلال العام 2022 من تجاوز اقتصاد المملكة المتحدة من حيث الحجم، لتصبح خامس أكبر اقتصاد على مستوى العالم. وهذا الأمر يتم من خلال رزمات من الحوافز وخطط التنمية الصناعية، التي وضعتها السلطات في الهند خلال السنوات الماضية، والتي أثمرت بشكل واضح خلال العام الماضي.
خلال العام 2023، يتوقّع صندوق النقد أن يتجاوز نمو الاقتصاد الهندي حدود 6.1%، بعد أن حقق عام 2022 نسبة نمو متوقّعة قاربت 6.8%، وهو ما يتجاوز بهامش واسع نسب النمو التي حققتها الصين (3.2% خلال العام الماضي). وإذا تمكنت الهند هذا العام من استكمال سعيها لاستقطاب الشركات الصناعيّة الكبرى، مستفيدة من العقوبات على القطاع التكنولوجي في الصين، فستتجه الهند على المدى الأطول إلى منافسة الصين بالفعل على موقع القطب الصناعي الأهم في جنوب وشرق آسيا.
سقوف الأسعار ومستقبل أسواق الطاقة
ابتداءً من منتصف شهر كانون الثاني، سيدخل حيّز التنفيذ سقف الأسعار على النفط الروسي، الذي فرضته مجموعة الدول الصناعيّة السبع والاتحاد الأوروبي. وفي منتصف شهر شباط المقبل، من المفترض أن يدخل حيّز التنفيذ سقف الأسعار على الغاز الروسي، الذي نصّ عليه قرار الاتحاد الأوروبي مؤخّرًا.
في الشكل، تستهدف جميع هذه التطوّرات النظام الروسي ومصادر تمويله. لكن من الناحية العمليّة، تمثّل هذه الخطوات أولى المحاولات الجديّة لتكتيل مستوردي مصادر الطاقة، والتوافق على إجراءات تستهدف التحكّم بأسعار النفط والغاز، تمامًا كما يتكتّل المنتجون في إطار تحالفات كبرى كأوبيك وأوبيك+، للتحكّم بمعدلات الإنتاج والأسعار.
من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم التوجّس الذي عبّرت عنه معظم الدول المنتجة في أسواق الطاقة، تجاه هذا النوع من الإجراءات، والتي يمكن أن تمثّل سابقة يمكن أن تعطي الدول الصناعيّة المستوردة قوّة تفاوضيّة أكبر في وجه المنتجين. بعبارة أوضح، نجاح هذه الإجراءات قد يعني الكثير على مستوى شكل وآليّات عمل أسواق الطاقة في المستقبل. أمّا فشلها، فقد يحمّل السوق خلال العام 2023 بعض الاهتزازات التي ستصيب سلاسل توريد النفط والغاز.
أزمة بريطانيا الوجوديّة
ستستمر بريطانيا خلال العام 2023 بمواجهة الضغوط الاقتصاديّة، الناتجة عن تقاطع تداعيات خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، مع تداعيات أزمات الطاقة والتضخّم وارتفاع الفوائد. أرقام البنك المركزي البريطاني تشير إلى أنّ الاقتصاد البريطاني دخل بالفعل مرحلة الركود الاقتصادي خلال الربع الثالث من العام الماضي، فيما من المتوقّع أن تستمر حالة الركود على هذا النحو لغاية العام 2024، ما سيمثّل أطول ركود تمر به البلاد في تاريخها.
أرقام مكتب مسؤوليّة الميزانيّة البريطاني، تشير إلى أن حجم الانكماش الاقتصادي المتوقّع في بريطانيا سيتجاوز حدود 1.4% خلال العام المقبل، ما يمثّل أكثر التوقّعات تشاؤمًا بالنسبة إلى اقتصادات الدول الغربيّة، مقارنة مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذا الركود القاسي، سيتقاطع مع أعلى مستوى تضخّم عرفته البلاد منذ أكثر من 40 سنة، حيث بلغ مستوى التضخّم السنوي حدود 11.1% خلال تشرين الأول الماضي، ما يفوق أيضًا نسب التضخّم المقدّرة في الولايات المتحدة وسائر أوروبا.
في النتيجة، من المتوقّع أن تخسر الأسر البريطانيّة 7.1% من مستوى معيشتها خلال العام المقبلين، كما ستخسر 4.3% من حجم الدخل المالي الحقيقي بين عام 2022 و2023. وهذا التطوّر، سيعني خسارة كل النمو الذي حققته الأسر البريطانيّة في هذه المؤشّرات منذ 8 سنوات، لتبقى مستويات الدخل الحقيقي تمامًا كما كانت عليه قبل فترة تفشّي وباء كورونا.
من المتوقّع أن تستمر الحكومة البريطانيّة بالتعامل مع هذه التطوّرات بمزيج من التقشّف القاسي والزيادة في معدلات الضرائب، وهو ما بدأ بإثارة موجات قاسية من الاضطربات والإضرابات العماليّة، والتي من المفترض أن تستمر على امتداد العام المقبل. مع الإشارة إلى أنّ حكومة المحافظين مازالت تتفادى خلال الوقت الراهن مصارحة الرأي العام بأبرز أسباب هذه الأزمة، المرتبطة بعزلة بريطانيا عن السوق الأوروبيّة المشتركة، ما جعلها في وضع هش مقارنة بسائر الدول الأوروبي. قلّة الشفافيّة في هذا الشأن، ترتبط بالدور الذي لعبه أبرز رموز هذه الحكومة في تشجيع الرأي العام البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي. إلا أن هذا الواقع، سيعني استمرار تفادي الحكومة البريطانيّة في التعامل مع جانب أساسي من المشكلة، المرتبط بالعلاقة مع الاتحاد الأوروبي.
في جميع الحالات، ما يجب ترقّبه خلال العام الحالي، هو الآثار السياسيّة لهذه التطوّرات الاقتصاديّة، وخصوصًا على مستوى النزعات الإنفصاليّة التي بدأت بالتنامي في سكوتلندا وإيرلندا الشماليّة. هذه النزعات، كانت موجودة أساسًا لعقود مضت، إنما بات يساهم في تقويتها اليوم ما يدفعه أبناء هذه المناطق من أثمان لقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي، في حين أن غالبيّتهم صوتت بحماسة للبقاء في الاتحاد.
أزمات ديون الدول النامية
شهد العام 2022 مجموعة من التطوّرات الاقتصاديّة، التي ساهمت في تأجيج أزمة ديون الدول النامية. فارتفاع الفوائد العالميّة ساهم في رفع كلفة خدمة هذه الديون، وتضخّم أسعار النفط والمواد الغذائيّة استنزف احتياطات الدول المستوردة من العملات الأجنبيّة، ما قلّص قدرتها على الإيفاء بإلتزاماتها.
هذا الواقع تحديدًا هو ما يفسّر اشتداد الطلب على برامج صندوق النقد الطارئة، والمخصصة للتعامل مع أزمات عجوزات ميزان المدفوعات والميزانيّات العامّة. خلال العام 2023، من المتوقّع أن تستمر العوامل نفسها بالضغط على الدول النامية التي تعاني من ارتفاع في مديونيّتها، ما قد يكرّر سيناريوهات لبنان وسريلانكا في العديد من الدول الأخرى. في المنطقة العربيّة، يحوم شبح هذه الضغوط حول ثلاث دول بالتحديد: تونس ومصر والسودان، بعدما دخل لبنان أساسًا مرحلة التعثّر الصريح منذ العام 2020.
سعر النفط والغاز.. ونسب الفوائد
خلال العام 2022، ساهم ارتفاع أسعار النفط والغاز العالميّة في قيادة معدلات التضخّم للارتفاع في مختلف أنحاء العالم، فيما ساهم ارتفاع الفوائد الأميركيّة، والتي تلاها ارتفاع الفوائد في سائر الأسواق، في الضغط على معدلات النمو الاقتصادي. وبهذا الشكل، أدّى تزامن العاملين معًا إلى حالة من الركود التضخّمي، التي يختلط فيها أثر ارتفاع الأسعار مع ضعف قدرة التكتلات الاقتصاديّة على خلق الوظائف والاستثمارات.
لكل هذه الأسباب، من المتوقّع أن يمر اقتصادا الولايات المتحدة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي بركود على مدى العام المقبل. أمّا درجة هذا الركود وقسوته، فسيحددها المدى الذي ستصل إليه معدلات الفوائد خلال السنة المقبلة، وإمكانيّة حصول أي ارتفاعات إضافيّة في أسعار مصادر الطاقة. وهذه التطوّرات، ستتأثّر حكمًا بمستويات التضخّم، التي تدفع المصارف المركزيّة لرفع الفوائد، وتطوّرات الغزو الروسي لأوكرانيا.
بشكل عام، لا يوجد اليوم من يتوقّع أن يكون العام 2023 عام ازدهار وانتعاش على مستوى الاقتصاد العالمي، خصوصًا أن العالم سيرث من السنة الماضية مجموعة من الأزمات التي تركت أثرها على مختلف التكتلات الاقتصاديّة العالميّة. لكن وطأة هذه الأزمات وقسوتها، ستعتمد على مجموعة من التطوّرات السياسيّة التي لم تظهر معالمها بعد، ومنها على سبيل المثال مستقبل النزاع المرتبط بوضعيّة تايوان، أو مدى إصرار بوتين على استكمال حربه في أوكرانيا، ونوعيّة التحوّلات على مستوى التحالفات السياسيّة في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا الخليج العربي.