“تفاهم مار مخايل”… هل بات يحتاج إلى توقيع باسيل؟

“تفاهم مار مخايل”… هل بات يحتاج إلى توقيع باسيل؟

الكاتب: سابين عويس | المصدر: النهار
7 شباط 2023

للمرة الاولى منذ توقيع “تفاهم مار مخايل” بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، قبل 17 عاماً، يفقد الحدث بريقه، ويفتقد أحد صانعيه، مع خروج الزعيم المؤسس للتيار ميشال عون من المشهد السياسي وحلول صهره النائب جبران باسيل مكانه على رأس التيار، كما على ضفة التفاهم.

لم يعد خافياً على الفريقين حجم التصدعات التي نالت من التفاهم، بعدما خرجت اخيراً الى العلن، ولم يعد في الامكان اخفاؤها، بعد نحو خمسة اعوام من محاولات تخفيف حدّتها أو التقليل من اهميتها. إلا ان تراكم المواقف والاخطاء في الاداء والممارسة لدى كلا الطرفين من دون تمييز ادى الى تنفيس الاحتقان عبر رفع سقف التصعيد في المواقف، مبرزاً حقيقة جلية تكمن في ان التفاهم قام وصمد على معادلة المصالح المشتركة التي جمعت الاضداد، تحقيقاً للمكاسب والنفوذ. وهذا لا يعني حتماً ان الفجوة الحاصلة اليوم بين فريقي التفاهم ستؤدي، كما يعتقد كثيرون، الى الطلاق او الانفصال. فما يجمع بينهما لا يزال اكبر مما يختلفان عليه. وحاجة الواحد الى الآخر تبدو اليوم بالنسبة الى كليهما اكبر مما كانت في السابق، خلافاً لما يسعى كل منهما الى تظهيره. فلا الحزب مستعد للتخلي عن حليف مسيحي وإن كان اصبح ضعيفاً ضمن بيئته، طالما لم ينجح في خلق قوة مسيحية قادر على ان يتكىء عليها، حتى لو نجح في ايصال حليفه سليمان فرنجيه الى الرئاسة الاولى، أو يلملم بعض الخارجين سراً عن طاعة رئيس التيار، وهم باتوا كثراً، ويدفعهم الى تشكيل نواة تكتل مسيحي يواجه تكتل باسيل ويضعفه. ولا التيار في المقابل، وفي شكل اكبر، قادر على القيام بخطوة اعادة التموضع والارتماء في الحضن المسيحي الذي عاداه منذ تولى ميشال عون الرئاسة وأطاح “تفاهم معراب”. ذلك ان زعيم “القوات اللبنانية” اليوم ينتظر الفرصة للانقضاض على من يعتبر انه وجّه اليه طعنة في الظهر، وأخلّ بالاتفاق الذي اوصل عون الى بعبدا. في حين تزيد عزلة باسيل وفريقه السياسي بعدما رفع سيف العداء في وجه كل القوى.

صحيح ان اوجه الاختلاف والتباين باتت كبيرة وكثيرة، لكنها لن تُسقط التفاهم، بل ستكون محطة اساسية لاعادة النظر بالاتفاق الذي يتخذ طابعاً سياسياً بحتاً قائماً على تحالف مصالح ونفوذ وتضافر قوتين وليس على مشروع سياسي يقدم مقاربة او رؤية مشتركة للعمل السياسي او لما هو مطلوب لهكذا تحالف ان يحققه على المستوى الوطني.

لا يكفي ان يحمل عونيّ علم “حزب الله” ليكون مقتنعاً بعقيدته واهدافه، كما لا يكفي “حزب اللهيّا” ان يرتدي قميصا برتقالياً ليعكس اقتناعاً بما يمثله التيار لجمهوره.

والدليل انه بمراجعة كل مندرجات التفاهم وبنوده، يتكشف فشل الفريقين في تحقيق ولو بندا واحدا منه، من البند الاول المتصل بالحوار الوطني وصولاً الى البند الاخير المتصل بحماية لبنان وصون استقلاله وسيادته، وقد شهدت الاعوام السبعة عشر من الاتفاق على اكثر المراحل سوءاً وخطراً على هذا الاستقلال وتلك السيادة.

لم ينجح الطرفان في جمع المكونات اللبنانية حول طاولة حوار تعكس ارادة توافقية جامعة، كما جاء في البند الاول الذي دعا الى تغليب المصلحة الوطنية والشفافية والصراحة…

اما الديموقراطية التوافقية (البند الثاني) فكانت استنسابية اكثر منها توافقية، حيث شهدت البلاد أطول مرحلة تعطيل لارادة شريحة كبيرة من اللبنانيين رفض ركنا “مار مخايل” الاعتراف بوجودها. واذا كان قانون الانتخاب الوارد في البند الثالث قد حقق النسبية الا انه لم يضمن عدالة التمثيل الشعبي ولم يفعّل عمل الاحزاب وتطويرها وصولاً الى المجتمع المدني، أو حدّ من العصبيات الطائفية.

المفقودون في الحرب واللبنانيون في إسرائيل والاغتيال السياسي والاصلاح الامني والعلاقات اللبنانية – السورية – الفلسطينية، ظلت عناوين طنانة لكلا الفريقين من دون اي عمل جدي في اتجاه تحقيق أي منها.

يبقى البندان الجوهريان في التفاهم المتصلان بسلاح الحزب وبناء الدولة. فالوثيقة تعتبر ان السلاح يجب ان يأتي “ضمن مقاربة شاملة تقع بين حدين: الاستناد الى المبررات التي تلقى الاجماع الوطني وتشكل مكامن القوة للبنان واللبنانيين في الابقاء على السلاح، والحد الآخر هو تحديد الظروف الموضوعية التي تؤدي الى انتفاء اسباب ومبررات حمله. وبما ان إسرائيل تحتل مزارع سبعا وتأسر المقاومين اللبنانيين وتهدد لبنان، فإن على اللبنانيين تحمّل مسؤولياتهم وتقاسم اعباء حماية لبنان والحفاظ على استقلاله من خلال تحرير المزارع وتحرير الاسرى وحماية لبنان من الاخطار الاسرائيلية من خلال حوار وطني يؤدي الى صوغ استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل اعبائها والافادة من نتائجها”.

17 عاماً لم تكن كافية لتحقيق اي من مندرجات هذا البند، ولا سيما الاستراتيجية الدفاعية او اعادة المفقودين، بل كرست واقعاً مفاده ان لا طاولة حوار ولا استراتيجية دفاعية وطنية الا بمواصفات الحزب.

اما البند الرابع الذي يتلطى وراءه التيار على انه البند الذي لم يطبق في التفاهم، غافلاً الاخفاقات في كل البنود الاخرى، فيتمثل ببند بناء الدولة ومكافحة الفساد والاصلاح الاداري الشامل واحترام عمل المؤسسات الدستورية وابعادها عن التجاذبات السياسية (المجلس العدلي والمجلس الدستوري)…

يشكو التيار من التقصير في تطبيق هذا البند، كما في مسألة الاستراتيجية الدفاعية، ويعتبر ان عدم قيام الدولة يعود الى موازين القوى التي لم تكن لمصلحة تحقيق هذا البند، ويعترف بأنه فشل في استقطاب قوى اخرى الى هذه الورقة. كذلك الامر بالنسبة الى الاستراتيجية الدفاعية، علماً ان التيار يقدم شتى الاسباب التخفيفية لفشل الرئيس ميشال عون في عقد طاولة حوار، ومنها التطورات الاقليمية، في حين لا تخفي اوساط التيار الاستياء من انخراط الحزب في الاقليم من دون التشاور معه!

عندما ارتفعت حدة التحفظات داخل التيار حيال اداء الحزب وتجاوزه في كثير من المحطات حليفه، تم احتواء مناخ الاعتراض والسخط عبر تأليف لجنة مشتركة مطلع عام 2021 مهمتها اعادة النظر ببنود التفاهم ومناقشة اية افكار وطروحات قابلة للاضافة او التعديل. لكن اجتماعات اللجنة بقيت معدودة وخجولة ولم ترتق الى مستوى الخروج بتصور جديد، فيما بقيت معالجة الامور الخلافية على مستوى القيادتين. لكن هذا الوضع تراجع بعدما بلغت حدة تصريحات باسيل مستوى التجريح بنصرالله، ما وضع العلاقة على مسار اللاعودة الى ما كانت عليه سابقاً. فالجفاء اصبح سيد المحادثات المقتصرة على الحاجة القصوى، ولم يعد للود مكانه. ولخروج ميشال عون من الصورة العامل الابرز لذلك. ذلك ان العلاقة بين نصرالله وباسيل لا يمكن ان تكون كما كانت بين الاول وعون. وما الزيارة التي قام بها وفد الحزب الى الرابية للقاء عون في غياب باسيل الا التفسير المنطقي للاحترام والمكانة اللذين يحظى بهما عون ويفتقدهما اليوم باسيل.

يصح في ورقة التفاهم المثل القائل “اقرأ تفرح جرب تحزن”، علماً ان الامر يتجاوز القراءة الفرحة والتجربة المحزنة، ليصل الى مستوى الخوف الكبير من ذوبان تلك الورقة امام المصالح الكبرى الرامية الى فرض واقع ساهم توقيع عون في ارسائه وتكريسه. وليست المشكلة اليوم بالمواقف التصعيدية والعتابات او بالتغني بانجازات حققها التفاهم ويدّعي الحزب انها ساهمت “في تحقيق الامن والاستقرار والسلم الاهلي وتجنيب البلاد شرور الفتنة والانقسام وحمايتها من اعتداءات الخارج وردع اسرائيل وصد الارهاب (…)” على ما يقول مسؤولو الحزب في معاني الذكرى. بل المشكلة ان ثمة طرفاً في التفاهم لا يجد لنفسه مكاناً في المعادلة السياسية التي يمسك بمفاتيحها الحزب اليوم إن على صعيد الاستحقاق الرئاسي او الحكومي. وأي بحث عن كرسي على الطاولة يتطلب مقاربة جديدة للعلاقة كما لورقة التفاهم.

من اكثر المواقف تعبيراً لما يربط التيار بالحزب ما قاله رئيس التيار يوماً انه لولا الحزب لما صار عون رئيسا، ولولا التيار لما كان الحزب انتصر على إسرائيل وواجه العزل والارهاب. واكثر ما يقلق “البرتقاليين” اليوم ما قاله الامين العام للحزب اخيراً ان المقاومة ليست في حاجة الى غطاء من أحد.

تمر ذكرى السادس من شباط عادية في ظل التحديات الكبرى التي تلقي بثقلها على البلاد، لكن الاكيد ان 6 شباط 2023 لن يكون ابداً كما كان على مدى 16 عاماً مضت. ولن يكون للتفاهم إحياء في حلة جديدة ما لم يُمهر هذه المرة بتوقيع باسيل نفسه!