سلامة المنتقل من قفص الاتهام إلى الهجوم: أيّ رسائل وجّهها الى السياسيين؟

سلامة المنتقل من قفص الاتهام إلى الهجوم: أيّ رسائل وجّهها الى السياسيين؟

الكاتب: سابين عويس | المصدر: النهار
21 آذار 2023

منذ أن حضر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة جلسة استجوابه على مدى يومين في قصر العدل وتحت قبة القضاء اللبناني، في حضور قاضية فرنسية، لم يعد السؤال الذي يشغل الوسط السياسي والمالي والاعلامي ما اذا كانت ساعة نهاية الحاكم قد دقّت بعد ثلاثة عقود امضاها على رأس السلطة النقدية، بل ماذا ترتب هذه النهاية ليس على الرجل او على القطاع الذي اشرف على هندسته طوال تلك الحقبة فحسب، وانما على المنظومة السياسية التي تولت توفير القرار السياسي للحاكم، واستفادت في شكل او في آخر من تلك الهندسات والسياسات.

ليس قليلاً على صاحب الاوسمة المحلية والدولية، المحاصَر في اماكن عجزت القاضية غادة عون عن ولوجها، ان يخرج من مقره ويشارك على مدى يومين في جلسات رفض وصفها بجلسات استجواب، بل تحت المسمى الذي ارتأى استخدامه، مستمعاً وليس مشتبهاً به أو متهماً. فتلك الجلسات الطويلة من الاسئلة التي فاقت الـ190 سؤالاً، ولم تتخللها إلا استراحات قصيرة كفيلة بتدخين سيجار بين استراحة واخرى، لم تدفع الحاكم الى الانسحاب والاستقالة، بل حفّزته على اتخاذ القرار الأجرأ بالمواجهة.

فبعد اكثر من عامين من الاستهداف المباشر وغير المباشر الذي لم يألُ وسيلة في السياسة او القضاء او التخويف والتهويل، قرر سلامة، وبعدما لمس بدء مسار الانسحاب التدريجي للقوى الداعمة له، ان يخوض معركة المواجهة بالاساليب عينها التي مورست معه. وكان البيان الذي اصدره بعد اختتام الجلسات، الاشارة الاولى لقرار الرجل سلوك هذا المسار.

لم يكتفِ سلامة برفض اعطاء الجلسات طابع الاستجواب او التحقيق، فأعلن انه حضر بصفة مستمَع اليه، لا كمشتبه به ولا كمتّهم. في رده على الاتهامات الموجهة اليه، في ملف شركة “فوري”، فصل بين حسابه الشخصي في مصرف لبنان والحسابات التي تودع فيها الاموال العائدة للمصرف، موثّقاً مسألة عدم تحويل اموال من “المركزي” الى حسابه، ومثبتاً ان التحويلات الخاصة به مصدرها حسابه الشخصي.

في هذا الشقّ من الدعوى، نُقل عن سلامة ارتياحه الى قوة حجته. فالرجل وفق الحلقة القريبة منه، أذكى من ان يسقط في اخطاء كتلك الموجهة اليه. ولكن ما يقلق سلامة منبعه مكان آخر، له علاقة بالخلفية السياسية التي يعتبر انها تقف وراء تحريك الدعاوى، كما جاء في بيانه المقتضب جداً وانما الحافل بالرسائل ايضاً.

فالبيان يشير الى ان سلامة “لمس لأكثر من عامين سوء نية وتعطش للادعاء عليه، من خلال حملة اعلامية مستمرة تبنّتها بعض الوسائل الاعلامية والتجمعات المدنية منها أوجدت غب الطلب لتقديم إخبارات في الداخل والخارج وذلك للضغط على القضاء والمزايدة عليه”. وفي البيان أيضًا اتهام لمدنيين وصحافيين ومحامين “يدّعون انهم قضاة يحاكمون ويحكمون بناء لوقائع قاموا بفبركتها، وواكبهم بعض السياسيين من اجل الشعبوية اعتقاداً منهم ان هذا الامر يحميهم من الشبهات والاتهامات، أو أنه يساعدهم على طمس ماضيهم أو يعطيهم عذراً لاخفاقاتهم في مواجهة الازمة وحلّها”.

في القراءة بين سطور البيان، يتضح ان سلامة يوجه اصبع الاتهام في اتجاه “التيارالوطني الحر” الذي كانت له اليد الطولى في قيادة الحملة ضده. لكن عدم تسمية الامور بأسمائها يُفسح في المجال واسعاً امام المخيلة لتوجيه الاتهام الى ايّ من القوى السياسية التي تسعى الى “طمس” الماضي، او تبرير الاخفاق في الحل. والكلام عن الماضي يذهب حكماً الى مرحلة أبعد من الماضي القريب، ما يجعل غالبية القوى السياسية في مرمى اتهاماته.

هل بدأ سلامة يتلمس تخلّي المنظومة الحاكمة عنه، وتسليمه كبش فداء من خلال تحميله مسؤولية الانهيار، علماً ان الاتهامات المُساقة ضد الرجل تقتصر على حسابات خاصة ومحددة ولا تتصل بالخسائر المالية او بميزانيات المصرف المركزي؟

هل هذا هو المدخل لإسقاط سلامة والنأي عن مسؤولية السلطة السياسية من خلال تحميله وزر الاتهامات، فيسقط بتهم لن تصل الى أيّ من هذه القوى؟

الاكيد اليوم ان سلامة وُضع في قفص الاتهام، حتى تثبت براءته. وقد ساهم في ادخاله هذا القفص اكثر من طرف محلي او خارجي ولأسباب لا تقتصر على السياسة.

فالضغط على الرجل وما يمثله على رأس المصرف المركزي بدأ فور اندلاع “انتفاضة 17 تشرين” وتحويل الشعارات الى المطالبة بإسقاط “حُكم المصرف”. واستمرت تتفاعل حتى بقيت وحدها دون الشعارات الاخرى لـ”كلن يعني كلن” وغيرها. ومعها تفاعلت الازمة المالية والمصرفية. بقي الحاكم على رأس الحاكمية مدعوماً بتضافر جهود داخلية واوروبية واميركية، الى ان بدأت اخيراً مرحلة التخلي. فتزامن حراك المحققين الدوليين وزياراتهم الى لبنان مع تسريبات اميركية عن احتمال فرض عقوبات على سلامة على خلفية علاقته بـ “حزب الله”. وقد سبق ذلك مواجهة قضائية مركزة خاضتها القاضية عون بلغت حد اصدار مذكرة جلب في حق الحاكم.

استكملت الضغوط اخيراً عبر جلسات الاستجواب وحضور قاضية فرنسية لها، بالتزامن مع تسريب كلام عن وضع سلامة استقالته في تصرف رئيس الحكومة.

ولا تتوقف الضغوط هنا ما دامت تتردد معلومات عن استيضاحات اوروبية حيال انعكاسات اي عقوبات على سلامة على الوضع الاقتصادي والنقدي، فيما دولار السوق السوداء يستمر في تسجيل قفزات جنونية تعكس خروج المصرف المركزي من السوق وامتناعه عن السيطرة على حركته، بقصد او بغير قصد(؟)

لكن هذه الضغوط، على اهميتها، لم تجعل القلق يتسلل الى قلب الحاكم. وما لهجته العالية النبرة وهجومه على السياسيين إلا في هذا السياق. فهو يستند الى مجموعة معطيات تضفي الطمأنينة على تحركه.

اولها انه تمكن عقب جلسات الاستجواب من التأكد ان ما يملكه القضاء الاوروبي لا يرقى الى الاتهامات المساقة ضده، ولن تصل الى حد زجّه في السجن، منطلقا في هذه القناعة بأنه بريء من الاتهامات وغير متورط فيها.

يدرك سلامة كذلك ان التخلي عنه على رأس الحاكمية عندما تنتهي الولاية لا يعني ولن يصل الى حد تسليم رقبته. وهذا نتيجة التسوية التي قضت بخروجه من “المركزي” فور انتهاء ولايته. وهذا الموقف لا يقتصر على سلامة فحسب وانما تم ابلاغه الى كل رؤساء الاجهزة والمؤسسات ومفاده التسليم بانتهاء الولاية والذهاب الى المنزل.

وعليه، هي أشهر قليلة حتى تموز المقبل كي ينتقل سلامة من الحاكمية الى مكان لا تزال وجهته مجهولة!