
خاص – طهران تحكم قبضتها على الورقة الفلسطينية
كما أن الحرب الأوكرانية ستترك تداعياها على التوازنات الدولية، فإن ما بعد حرب غزة لن يكون كما قبلها من حيث التوازنات الاقليمية. وعندما تنتهي الأعمال الحربية، فإن صورة جديدة للشرق الأوسط ستظهر.
فالحرب على غزة هذه المرة ليست كسابقاتها، لا من حيث الضراوة ولا التداعيات، أو من حيث الأطراف الاقليمية التي صارت لاعباً أساسياً على ساحة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق عملية “طوفان الأقصى”، فرضت حركة “حماس” نفسها على أنها الطرف المقرر في الملف الفلسطيني، وليس حركة “فتح”. فهي أمسكت الأرض، ونفذّت عملية نوعية غير مسبوقة من حيث عنصر المباغتة والدخول الى المستوطنات، ومن حيث عدد الضحايا الكبير في صفوف الجنود الاسرائيليين والمستوطنين، إضافة الى أخذ عدد كبير من الأسرى.
فالسلطة الفلسطينية في رام الله ترهّلت، وتعاني من مشاكل عديدة، أبرزها الخلافات القائمة بين فصائلها، أضافة الى المعركة على خلافة الرئيس محمود عباس الذي أصبح متقدما في السنّ. وفي المقابل، أخذت “حماس” بيدها الصراع مع اسرائيل، التي لم تبرح توسّع المستوطنات، وتشدد الحصار على قطاع غزّة الذي يعاني سكانه من نقص الخدمات والفقر، بعد ما كانت قد رمت اتفاقات أوسلو في النسيان.
وما الاشتباكات الأخيرة التي جرت في مخيم عين الحلوة سوى دليل إضافي على رجحان كفة القوة لصالح “حماس”، حيث لم تتمكن “فتح” من بسط سيطرتها على الاسلاميين، كما لم تتمكّن من فرض تسليم المطلوبين المتهمين باغتيال قائد الأمن الوطني الفلسطيني أشرف عرموش.
هذه الصورة جعلت من ايران واقعياً هي الجهة الأكثر تأثيراً في القرار الفلسطيني، وأصبحت هي من تمسك قرار الحرب والسلم، على غرار الوضع في لبنان، حيث أن أي عمل يقوم به “حزب الله” بإيعاز من ايران يحدّد مصير البلد حرباً أو سلماً. وهكذا تمكّنت ايران التي ما فتئت تقدم الدعم لـ “حماس” من أن تصبح عملياً لاعباً أساسياً في القضية الفلسطينية.
ومع أن طهران تصرّ على نفي أن تكون وراء عملية “طوفان الأقصى”، فإنّ هذه العملية جعلتها في قلب الصراع. وقد استقدم الاميركيون حاملة طائرات هي الأقوى إلى الشواطئ القريبة من اسرائيل، من أجل دعم حليفتهم في حال حصول أي دخول في الحرب من جانب “حزب الله” أو ايران.
ولكن، أياً كانت نتائج الحرب على غزّة، فإن ايران فرضت نفسها أحد اللاعبين الأساسيين في الملف الفلسطيني. وأبرز ما حققته هو تجميد عملية التطبيع التي كانت تقترب بين السعودية واسرائيل مع كل ما كانت ستتركه من تداعيات ليست في مصلحة ايران. وقد يكون موضوع التطبيع هو العنصر الأهم التي استثار ايران، وجعلها تسارع إلى دعم عملية “حماس”، قطعا للطريق أمام أي تسوية محتملة بين تل أبيب والرياض برعاية واشنطن. ومعلوم أن السعودية كانت تفاوض على شروط تتضمن اقامة مفاعل نووي لأهداف مدنية والحصول على أسلحة متطورة وضمانات أمنية من الولايات المتحدة. وهذا بالنسبة إلى ايران يعتبر خطاً أحمر.
لا يمكن توقع ما ستؤول اليه حرب طويلة تشنها اسرائيل على غزة، وما يمكن أن يتشعب منها. ولكن الحرب عادة ما تنتهي بتسويات يحصد فيها كل طرف مكاسب بحسب مقدار ربحه أو خسارته. وستستخدم اسرائيل كل ما لديها من قوة عسكرية لسحق غزّة. ولكن هذا لا يعني نهاية حركة “حماس”. ففي حرب لبنان في تموز 2006 دمرت الطائرات الحربية المرافق والبنى التحتية وسوّت أحياء بكاملها بالأرض، لكن الحزب خرج من هذه الحرب أقوى من قبل، وجمع ترسانة ضخمة من الأسلحة، كما نمّى قدراته بما يفوق بأضعاف مضاعفة قدرات “حماس”.
وكما انتهت حرب تشرين في العام 1973 إلى اتفاق سلام مع مصر، ولو بعد ست سنوات، فإن حرب غزة اليوم ربما تؤدي إلى تسوية ما. وعندما يأتي هذا اليوم، ستكون ايران على الطاولة مفاوضا رئيسياً. وفي هذا الوقت، ستجري حسابات الربح والخسارة. وقد تشمل التسوية كل الملفات المطروحة من توزع النفوذ الايراني السعودي، إلى الاتفاق النووي وعمليات التطبيع، وتالياً تقاسم النفوذ الدولي في الشرق الأوسط الذي أهمله الأميركيون طويلاً، فاستفادت من الفراغ كل من روسيا والصين. والآن تحاول واشنطن استعادة الزمام.