
خاص- طبخة بحص
“إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا في البرازيل”. مقولة شهيرة لحسني البرزان في مقالبه مع غوار الطوشة، أو العكس، يتذكرها بالتأكيد من تجاوز الأربعين، وهي تنطبق بالتأكيد على واقعنا الحالي. فإذا أردنا أن نعرف ماذا في بيروت علينا أن نعرف ماذا في غزة. لذلك يبدو واهمًا من يعتقد أن أي تطوّر داخلي يمكن أن يحدث بعدما أحكمت إيران شبك أذرعها في المنطقة عبر نظرية “وحدة الساحات” قبل حصول أحد أمرين: تثبيت تشابك هذه الأذرع بانتصار ما قد يكون بمجرّد الصمود في وجه الجنون الإسرائيلي المتدحرج، أو نجاح تل أبيب، ومعها واشنطن، في تحجيم إيران ووقف طموحها التوسعي وإيقاظها من حلم “الأمبراطورية الفارسية الجديدة” عبر قطع تواصل أذرعها تمهيدًا لإعادة صهرها في المجتمعات التي انطلقت منها، وهو أمر يحتاج بالتأكيد الى مجهود كبير وفترة زمنية غير محدّدة، لأنه يحمل في طيّاته مشروعًا لإعادة رسم خارطة المنطقة من الناحية السياسية وليس الجغرافية.
منذ عملية “طوفان الأقصى” التي استتبعت فتح جبهة الجنوب مع إسرائيل، إنكب المجتمع الدولي ولا يزال، عبر موفدين ورسائل يومية باتجاه الحكومة اللبنانية وتاليًا “حزب الله”، على محاولة فصل جبهة الجنوب عن حرب غزة منعًا لتمدّد رقعة الحرب في لبنان. هذه المساعي الدولية التي لم تتوقف، والمستمرّة الى اليوم، كانت ولا تزال تقابل بالرفض من قبل “حزب الله”، حتى تبنّت الحكومة اللبنانية مؤخرًا سرديته القائلة بضرورة وقف الحرب في غزة لتحقيق وقف لإطلاق النار على الحدود الجنوبية وتطبيق القرار 1701 من الجانبين.
هذا الأمر يعطي نموذجًا عن فشل المجموعة الدولية في الضغط على “حزب الله” عبر الحكومة اللبنانية لتحقيق المصلحة اللبنانية في تهدئة الوضع وعدم جرّ البلاد الى حرب مدمّرة في ظل حالة الجنون غير المسبوقة التي تشهدها الدولة العبريّة.
في ظل هذه الأجواء عادت اللجنة الخماسية الدولية لتشغّل محركاتها فجأة وبصورة متسارعة، عبر مبعوثيها وعبر سفرائها في بيروت، على أمل أن تقنع الأطراف الداخلية بانتخاب رئيس للجمهورية يشكل بداية لحلحلة العقد والأزمات المتفاقمة في البلاد. ورشح عن هذه التحركات والاتصالات أن الخماسية لم تتدخل هذه المرة في الأسماء وآثرت الحديث عن مواصفات، مسوّقة في الوقت نفسه لخيار ثالث يكون مقبولًا بالحد الأدنى من الجميع.
إزاء هذا الحراك المتسارع ل “الخماسية” الذي انطلق من عين التينة، ثمة من يراهن على وصوله الى الأهداف المحددة له، انطلاقًا من التجربة الناجحة للتمديد للقادة العسكريين من جهة، ولأنها لا تدخل في الأسماء أو تتبنى مرشحًا محدّدًا على حساب آخرين من جهة أخرى. فالخيار الثالث، أي المرشح الوسطي، قد يكون مقدمة لحل وسط يرضي الطرفين، إذا كانا راغبين في إخراج البلاد من أزماتها المستعصية وفي مقدمتها الفراغ الرئاسي.
في المقابل، ثمة من يعتبر أن حراك “الخماسية” لا يعدو كونه لعب في الوقت الضائع يملأ الفراغ السياسي الداخلي بلقاءات وتصريحات لا تسمن ولا تغني عن جوع. ويرى هؤلاء أن “الطباخين الخمسة”، حتى وإن كان بينهم “شيف” فرنسي مخضرم، لن يتأخروا حتى يتأكدوا أنهم يعملون على “طبخة بحص” لا أكثر ولا أقل.
يعتبر أصحاب هذه النظرية، وهم بالتأكيد على حق، أن “حزب الله” الذي لم يوافق على وقف لإطلاق النار مع إسرائيل قبل غزة لن يتسرّع الآن في انتخاب للجمهورية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على وضعه القتالي. ويستشهد هؤلاء ببيان رسمي صادر عن “حزب الله” يطلب فيه من مسؤوليه ومناصريه عدم الدخول في مشادات كلامية داخلية ليس وقتها الآن، لأن تركيز الحزب ينصب على التطوّرات القتالية في الجنوب. فهل أن من يرفض الكلام مع أطراف داخلية يمكن أن يتواصل مع هذه الأطراف أو مع بعضها وينزل معها الى ساحة النجمة لانتخاب رئيس للجمهورية؟
في المحصّلة، واهم من يظن أن ملف الرئاسة في لبنان منفصل عن “وحدة الساحات” بالنسبة ل”حزب الله” الذي يدرس خطواته العسكرية والسياسية بتأنّ شديد في انتظار نتائج الحرب في غزة. ولكن، لن يكون من السهل أن يحالف النجاح الوسطاء الخمسة في مهمتهم الرئاسية، لأن الحزب يتجه لخوض تجربة لعبة الرابح في الحالتين: فإذا صمدت حركة “حماس” لمدة أطول وتم التوصل الى وقف لإطلاق النار في غزة، وبالتالي على الحدود اللبنانية، سيسعى “حزب الله” الى استثمار هذا “الإنتصار” سياسيًا عبر فرض مرشحه الوحيد للرئاسة. أما إذا سارت الأمور في اتجاه معاكس وأتت نتيجة الحرب على حساب “حماس” كما هو مرجّح، فسيزداد الحزب تصلبًا في الداخل بذريعة الحاجة الى حماية ظهره في حال تعرّضه لأي وضع مشابه لغزة. لذلك لا تبدو الانتخابات الرئاسية حاصلة في المدى المنظور، وبالتالي فإن كل ما يحصل من حراك خارجي لا يعدو كونه ملءًا للفراغ السياسي الداخلي، وتنفيسًا للاحتقان المتفاقم بين مكوّنات الوطن، انتظارًا لما ستؤول إليه الخارطة السياسية الجديدة في المنطقة.