وثائق رسمية تكشف اختفاء حسابات كبار المودعين
منذ بداية الأزمة المالية في لبنان، انقضت المصارف التجارية على المودعين، سُرقت الودائع واختفت، انفجرت العاصمة بأهلها. صار حاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة ملاحقاً، محليّا ودوليًا، بتهم الفساد والاختلاس وتبييض الأموال وسرقة المال العام. فيما لاحقت الأجهزة الأمنية اللبنانية المودعين لمنعهم من اقتحام المصارف للمطالبة بودائعهم، وحُمّلوا ضريبة الانهيار المالي وأثمانه.
توالت التقارير والمعطيات وحتى التحقيقات الجزائية والمالية لكشف الملابسات التي أدت إلى هذا الإفلاس العام، الذي تحمّل وزره المواطنون، من دون أن يقوم القضاء اللبناني بتحمل هذه المسؤولية إزاء الشعب المفقر، بل انتهج مسلك الحماية والتستر على رياض سلامة وأعوانه. أما صغار المودعين فكانوا الفئة الأكثر تضرّرًا.
اختفاء الحسابات
المهم أنه بالتزامن مع كل هذه الأحداث، فإن عدد الحسابات المصرفية المفتوحة لدى المصارف التجارية اللبنانية بالدولار الأميركي، والتي تتجاوز قيمة الواحد منها الـ100 مليون دولار أميركي، والتي تعود لفئة الأثرياء، تبيّن أنه، حتى نهاية تشرين الأول عام 2019، كان عددها 14 حسابًا فقط. أما المفاجأة فهي أن هذه الحسابات في نهاية كانون الأول عام 2022، انخفضت إلى ستة. بمعنى أوضح، هناك ثمانية حسابات مصرفية تعود لكبار المودعين والأثرياء، اختفت بشكل كامل. واللافت أن القيمة الإجمالية لودائع هذه الفئة من الحسابات، تجاوزت حدود 3,8 مليار دولار، ولكن القيمة تقلّصت في نهاية عام 2022 إلى 903 مليون دولار. بمعنى آخر، تم تهريب القسم الاكبر من هذه الودائع.
وفي التفاصيل، فإن “المدن” اطلعت على وثائق رسمية صادرة عن المصرف المركزي، تشرح بالأرقام عدد الحسابات المصرفية المفتوحة في المصارف التجارية بين عامي 2019 و2022، ويتبين فيها عدد الحسابات التي أقفلت أو تم ترصيدها خلال هذه الأعوام.
والأهم، أن متابعة حركة الودائع المصرفية خلال هذه الأعوام، ومقارنة القيمة الإجمالية لهذه الفئات المتنوعة، يظهر بعدها التغير الواضح في قيمة الأموال بين فئات المودعين.
الجدير بالذكر، أنه في 31 تشرين الأول 2019، بلغ مجموع عدد الحسابات المصرفية (2,412,786) حسابًا، وفي 31 كانون الأول العام 2022 انخفض العدد إلى النصف بما يوازي (1,233,084) حسابًا.
أما عدد الحسابات المصرفية المفتوحة لدى المصارف التجارية والتي تتراوح قيمتها بين 50 مليون دولار و100 مليون دولار (قيمة الحساب الواحد)، فبلغ عددها عام 2019، 33 حسابًا، أما في نهاية عام 2022، فتقلص عدد هذه الحسابات إلى 9 فقط. أي أن هناك 24 حسابًا اختفت بشكل كامل. أما القيمة الإجمالية فتجاوزت الـ1,833 مليار دولار خلال عام 2019، ولكنها تقلصت إلى 611 مليون دولار في 31 كانون الاول لعام 2022!
الأرقام الرسمية
وتُظهر الوثائق خلال المسح الذي أجرته مديرية الإحصاءات لدى القطاع المصرفي اللبناني عن نهاية شهر كانون الأول 2022؛ أن عدد حسابات الزبائن بالعملة المحلية الوطنية هو: 2,324,010، وعدد المودعين هو 1,673,600.
أما في العملة الأجنبية، فعدد حسابات الزبائن: 1,761,080، وعدد المودعين: 1,232,262.
وفي نهاية شهر آذار العام 2023 يتبين أن مجموع المودعين بالعملة المحلية والأجنبية هو 2,180,529، وعدد حسابات الزبائن: 4,320,150.
أما عدد المودعين الذين استفادوا من مفاعيل التعميم الأساسي رقم 158 تاريخ 8 حزيران 2021، فمجموعه 180,976 عميلاً -حتى نهاية شهر نيسان 2023-، ووصل المبلغ الإجمالي المدفوع لهؤلاء المودعين ما يوازي 1,778,604,896 دولاراً أميركياً، ومنها 889,474,488 دولاراً دفعت نقدًا بالدولار الأميركي مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف.
تهريب الأموال؟
وبناءً على المعطيات المذكورة، والتّي أظهرت في محتوياتها، اختفاء حسابات بشكل كامل، والأهم اختفاء ثمانية حسابات تتجاوز قيمة الحساب الواحد الـ100 مليون دولار، فإن هذه التفاصيل تضعنا أمام تساؤلات ضروريّة، حول كيفية تمكّن هذه الفئات وتحديدّا فئة أثرى الأثرياء، من استعمال هذه الأموال، ما يفتح “شُبهة” حول إمكانية أن تكون هذه الأموال قد هُربت فعلًا. فهل اعتمدت هذه الفئة تحديدًا التحايل بتقسيم حسابها وتوزيعه على حسابات أخرى، لتفادي أي ضرائب أو إجراءات مصرفية كالـ”هيركات” التي تطال الحسابات الكبيرة.
مع التذكير أن المصرف المركزي يتلقى يوميًا تقريرًا مفصلًا من المصارف الخاصة تتناول فيه بيانات المودعين والتحويلات وسائر التفاصيل. وهنا يرى مراقبون أن الأجدى لمصرف لبنان، إن كان لديه “النية” في معرفة مصير الودائع، وإن كان قادرًا على الإجابة على جميع التساؤلات التي يطرحها المودعون، أن يقوم بتحويل هذه البيانات إلى القضاء اللبناني، للتدقيق فيها وتحري خلفيات الخلل الحاصل.