خاص- قصة صورة أطاحت باتفاق الطائف

خاص- قصة صورة أطاحت باتفاق الطائف

الكاتب: نبيل موسى
28 نيسان 2024

إنها صورة للتاريخ التقطها مصوّر محترف أتقن فن السياسة وألاعيبها، وأتقن أكثر فن استغلال الفرص. إنه الرئيس الراحل حافظ الأسد.

أما الصورة فكانت لدبابة “تي 72” ترفع العلم السوري تقف الى جانب دبابة “أبرامز” أميركية استعدادًا لانطلاق حرب الخليج الأولى التي أطلق عليها اسم “عاصفة الصحراء” أو “حرب تحرير الكويت”، والتي شكلت بداية نهاية الرئيس العراقي صدام حسين.

صورة يتيمة التُقطت في 17 كانون الثاني 1991 لدبابة لم تطلق قذيفة واحدة، أو ربما لم تشارك حتى في الهجوم على الكويت لتحريرها، كانت كفيلة بإهداء لبنان الى سوريا على طبق أميركي من فضة، ثم بإهداء المنطقة كلها الى ايران ولو عن طريق القضم التدريجي، بعد إزاحة “حارس البوابة الشرقية” كما كان يطلق على الرئيس صدام حسين بعد نحو 12 عامًا من هذا التاريخ.

هي بالفعل صورة تاريخية غيّرت حاضر المنطقة ومستقبلها.

أما لبنان الخارج حديثًا، في حينه، من سلسلة حروب لا تنتهي على مدى 15 عامًا، فلم يكن أمامه إلا التمسّك باتفاق الطائف الذي تم إقراره في 30 أيلول 1989 عله يكون خشبة الخلاص التي تنقذه من مآسيه وتعيد إليه مواسم العز والرخاء. هذا الاتفاق الذي تم التوصل اليه بوساطة سورية- سعودية وبرعاية أميركية، كان الرهان عليه كبيرًا لوقف الحرب وإعادة البلد الى سكة التعافي.

إلا أن تلك الصورة المشؤومة أعادت خلط الأوراق مجددًا في لبنان بعد تراجع الدورين السعودي والأميركي في رعاية تطبيق اتفاق الطائف، في مقابل صك أميركي على بياض أطلق يد سوريا في لبنان، فما كان من دمشق إلا أن طبقت اتفاق الطائف على الطريقة السورية وليس اتفاق الطائف بنصه وروحه كما تمّ إقراره، على مدى 15 عامًا من احتلالها المباشر للبنان.

بحكم تطورات الخليج انكفأت السعودية نسبيًا عن الساحة اللبنانية وحكم النظام السوري لبنان مباشرة من عنجر، فأطاح بمعارضيه السابقين وسلّم البلاد الى “جبهة الممانعة” التي كان يترأسها قبل إضعافه وانتقال رئاستها الى إيران. وانطلاقًا من هذه المعطيات أطاح النظام السوري بالتوازن الطائفي والسياسي الذي نص عليه “الطائف” واستأثر مع مؤيديه في الداخل بجميع المراكز والتعيينات الرسمية بدءًا برئاسة الجمهورية وانتهاء بأصغر موظف. وحده الرئيس الشهيد رفيق الحريري حافظ على موقعه لسببين: أولًا لحرص دمشق على المحافظة على حد مقبول من العلاقات الجيدة مع السعودية، ثم لحاجة المحتل السوري الى قامة مثل رفيق الحريري بخبرته وعلاقاته على المستويين الداخلي والخارجي.

داخليًا استأثرت “قوى الممانعة” بغطاء سوري مباشر بالسلطة وحصلت على الرئاستين الأولى والثانية، فيما ظلت الرئاسة الثالثة نظريًا خارج نطاقها، بينما تسيطر عليها عمليًا من خلال الوزراء المشاركين في حكومات الحريري الذين كان يأتي تعيين معظمهم من عنجر.

إلا أن الخطأ الوحيد الذي اقترفته قوى الممانعة (من وجهة نظرها) كان موافقتها مرغمة على اتفاق الدوحة بعد أحداث السابع من أيار 2008 والذي أوصل قائد الجيش العماد ميشال سليمان الى بعبدا رئيسًا، انطلاقًا من أنه في موقع الوسطي بين قوى 8 آذار و14 آذار في حينه. في تلك الفترة كان الاحتلال السوري المباشر للبنان قد انتهى، واستُبدل باحتلال إيراني بالواسطة كان لا يزال يتلمّس طريقه ليرث من حليفه في دمشق وسائط الإمساك بمفاصل البلد ومقدراته. إلا أن شهر العسل بين الدولة والدويلة لم يدم طويلًا، فاضطر الرئيس سليمان، بعد فترة غير قصيرة من محاولة تدوير الزوايا، الى بق البحصة وإطلاق شعار “المعادلة الخشبية” عن الجيش والشعب والمقاومة، وذلك بعد انقلاب “حزب الله” على “اعلان بعبدا” الذي صدر في 11 حزيران 2012 والذي كان الحزب شريكًا في صياغته وإقراره في هيئة الحوار الوطني برئاسة الرئيس سليمان في بعبدا.

أيقن الرئيس سليمان أن لا إمكانية لقيام الدولة بوجود الدويلة، وتأكد “حزب الله” أنه لن يكون بمقدوره السيطرة على مفاصل السلطة إذا قامت دولة حقيقية، فحصلت القطيعة بين الطرفين حتى انتهاء العهد الرئاسي.

تلك المرحلة كانت مفصلية ل”حزب الله” فقرر التعامل مع الوضع على طريقة “الطائف السوري” حتى إشعار آخر. ترك البلاد في فراغ رئاسي لمدة 29 شهرًا حتى نجح في إيصال حليفه العماد ميشال عون الى بعبدا فاستراح على مدى ست سنوات، وتصدّعت أسس الدولة في الفترة نفسها حتى باتت على وشك الانهيار.

بعد انتهاء ولاية الرئيس عون وخروجه من بعبدا، عاد “محور الممانعة” فأدخل البلد في فراغ رئاسي ثانً على مدى 18 شهرًا حتى الآن، ليثبّت بالفعل وليس بالقول خروجه عن اتفاق الطائف، أو ليؤكد العرف الذي فرضته سوريا على الاتفاق: رئاستان وثلث معطل في الحكومة لمحور الممانعة والباقي، لزوم ما لا يلزم، تتقاسمه الأطراف الأخرى.

هذا هو أساس الأزمة الحالية في البلاد وجوهرها، بعد تثبيت معادلة جهنّمية على مدى 35 عامًا بحيث لم يعد ممكنًا الخروج منها الا بمزيد من تمسك القوى السيادية باتفاق الطائف نصًا وروحًا، والعمل بالتعاون مع الراعيَين الدوليين للاتفاق، أي السعودية والولايات المتحدة الأميركية، لإعادة وضع القطار على السكة الصحيحة والبدء بأسرع وقت بتطبيق مندرجات وثيقة الوفاق الوطني، أو ربما الضغط على أطراف معيّنة لإعلان رفضها صراحة تمهيدًا للبحث عن صيغة أخرى تؤمّن مستقبل لبنان.