
لماذا يزداد التشويش على إشارات جي بي أس؟ …. الهجمات قد تسلك منحى تصاعديّاً
لكن في سنة 1983، أسقط السوفيات طائرة تجاريّة كوريّة اخترقت مجالهم الجوّيّ عن طريق الخطأ. لهذا السبب، سمح الرئيس الأسبق رونالد ريغان بإمكانيّة وصول القطاع المدنيّ إلى الـ “جي بي أس”، بحسب موقع “الميكانيكا الشعبيّة”. خضعت الخدمة المدنيّة لهذا النظام للتّلاعب المقصود بحيث تُرك لإحداثيّاته مجال خطأ بشعاع مقداره 100 متر. كان الهدف من ذلك ضمان تمتّع الجيش بالدقّة الفضلى. لاحقاً، أمر الرئيس بيل كلينتون بوقف هذا التلاعب بعدما تبدّدت المخاوف الدوليّة السابقة.
اليوم، تعود هذه المخاوف لتطغى من جديد على التوازن بين الاستخدامين المدنيّ والعسكريّ. فمهاجمة وتخطي نقاط الضعف لـ “جي بي أس” أصبحا ميداناً سريع التطوّر في الحرب الإلكترونيّة المعاصرة بحسب الباحث في “ناسا” دونغ وو، إذ ازداد التشويش بنسبة كبيرة في مناطق النزاعات كشرق المتوسّط وبحر البلطيق والقطب الشماليّ خلال السنوات الأخيرة.
يعدّ تشتيت الصواريخ والمسيّرات المعادية أحد أبرز أسباب التشويش أو التلاعب بإشارات نظام التموضع العالميّ. ويمكن فهم حجم المخاطر التي يتعرّض لها الطيران التجاريّ بسبب عرقلة إشارات نظام التموضع العالميّ أكان من خلال “التشويش” (jamming) أو تزييف الإشارات (spoofing). الأوّل قد يكون أسهل لأنّ الإشارات بين الأقمار الاصطناعيّة والأرض تضعف بمرور المسافة. أمّا الثاني فهو أكثر تطلّباً وتعقيداً وهو يمثّل صداعاً أكبر للطيّارين بحسب مجلّة “إيرويز” التي تعنى بأخبار الطيران التجاريّ.
أحياناً، قد يكون مجرّد ظهور سفن في المطارات (بيروت، نيسان 2024) أحد نتائج الاضطرابات المثارة في إشارات نظام التموضع العالميّ. لكن في بعض الحالات النادرة، أدّى تزييف الإشارات إلى إطلاق جهاز إنذار في الطائرات بسبب اقتراب غير صحيح من الأرض بحسب “إيرويز”.
من وسيلة إلى هدف
إذا كان نظام التموضع العالميّ (وهو جزء من النظم العالميّة لسواتل الملاحة GNSS) أداة لا يمكن الاستغناء عنها في الحروب لتحديد الأهداف العسكريّة بدقّة، فقد تصبح هذه الأداة هدفاً رئيسيّاً لأحد أطراف الحرب. ربّما جسّدت سنة 2007 منعطفاً أساسيّاً في هذا المجال، حين تمكّنت الصين من إسقاط قمر اصطناعيّ بصاروخ خاصّ الأمر الذي جعلها أوّل دولة غير أطلسيّة تكشف عن هكذا قوّة.
بحسب “نيويورك تايمز”، تتمتّع الولايات المتحدة والصين بقوّة ضرب أو “خطف” الأقمار الاصطناعيّة الخاصّة بكلّ منهما. في الوقت نفسه، يكاد يصبح “جي بي أس”، بالرغم من موثوقيّته وبساطته، متخلّفاً عن النظامين الأوروبّيّ (غاليليو) والصينيّ (بَيدو) وهو سهل الاستهداف بالنظر إلى قدمه. وتعمل دول أخرى مثل اليابان والهند على تطوير أنظمة مشابهة. ولا تملك الولايات المتّحدة نظاماً مدنيّاً احتياطيّاً حتى الآن بحسب التقرير نفسه.
أهمّيّة الفضاء للازدهار
يبيّن تحليلٌ لـ “المجلس حول الاستراتيجيّة الجغرافيّة”، وهو مؤسّسة أبحاث بريطانيّة، أنّ قوّة الفضاء أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من عناصر القوّة الوطنيّة. لكنّ ذلك يخاطر بتحوّل الفضاء من ملاذ وإرث مشترك للبشريّة (التصوّر الليبراليّ الأمميّ) إلى نوع جديد من “جيوسياسات النجوم” وخصوصاً في حسابات الدول التنقيحيّة. بحسب المجلس نفسه، إنّ الفضاء حيويّ للازدهار في الحقبة المعاصرة، إذ من دونه، سيتوّقف المجتمع المعاصر عن العمل.
قد يكون ارتفاع أسعار التأمين على رحلات الطيران المدنيّ بسبب ازدياد حالات تشويش/تزييف إشارات نظام التموضع العالميّ أحد الأمثلة السريعة عن انعكاس “حرب الفضاء” على الازدهار، هذا إلى جانب تأخير أو حتى تغيير مواعيد انطلاق الرحلات. وذكرت “نيويورك تايمز” أنّ نحو 60 ألف طائرة تجاريّة تعرّضت لإشارات مزيّفة من “جي بي أس” هذه السنة وحدها. وهناك توقّعات بأن تزداد حدّة الهجمات على “نظام التموضع العالميّ” في المستقبل.
“تشظٍّ”
سنة 2020، كتب سمير ناسار، رئيس مؤسّسة “أوبزرفر ريسيرتش فاونديشن” ومقرّها الهند، أنّ “فكّ الارتباط” بين الصين والولايات المتّحدة لن يبقى محصوراً في الاقتصاد بل سيكون مقدّمة لما سيحصل في مجالات أخرى. الآن، يبدو أنّ “التشظّي” وصل إلى النظم العالميّة لسواتل الملاحة بحسب تأكيد شون غورمان في مجلّة “سْبَيس نيوز” الشهر الماضي. ويضيف أنّه سيكون لذلك “عواقب جيوسياسيّة وتجاريّة وإنسانيّة بارزة” بما أنّ تراجع الاعتماد على خدمة واحدة مثل “جي بي أس” سيجعل جميع أنظمة الملاحة القائمة على الأقمار الاصطناعيّة أكثر عرضة للتدخّل، كما لهجمات سيبرانيّة وحركيّة (kinetic) أخرى.
أدى التشويش الإسرائيلي على اتصال لبنان بنظام “جي بي إس” إلى نقاش عن بدائل ذلك النظام المستند إلى منظومة استراتيجية من الأقمار الاصطناعية لمراقبة الأرض كلها. وبالتالي، فإن الخيار البديل يعني الانتقال من منظومة استراتيجية للأقمار الاصطناعية إلى منظومة اخرى. وهناك قلة من البدائل لـ”جي بي إس” صنعتها قوى كبرى، مثل منظومة الاتحاد الأوروبي “غاليليو” والروسي “غلوناس” والصينية “بايدو”. إنه صراع الجبارة وقد انتقل إلى الفضاء. والأهم أن برامج المعلوماتية والاتصالات وشبكاتها لديها خيارات استراتيجية في ذلك الأمر، وبالتالي، يتعقد أمر “البديل” ليصل إلى البرامج وأشكال الاتصالات المستعملة في الحياة اليومية.
ماذا عن البرامج والتطبيقات والشبكات؟
لا يصعب تصور المدى الاستراتيجي والمعقد لمسألة اللجوء إلى خيار بديل عن “جي بي إس”، ومدى تغلغل تأثيره في الحياة اليومية للناس.
لنبدأ بأن “جي بي إس” GPS، اختصار عبارة “النظام تحديد المواقع على الكوكب” Global Positioning System هو منظومة أقمار اصطناعية عسكرية صنعها البنتاغون، واستند إليها في أعمال تتعلق بالقوة العظمى التي تمثلها أميركا. ونُقلت خدماته إلى الاستخدام المدني الواسع في العام 2000، بالترافق مع العولمة وثورة الكومبيوتر والإنترنت والخليوي وشبكاته التي تغطي العالم. وفي ظل تلك الصورة، صنعت شركات المعلوماتية كل البرامج والتطبيقات والمنصات، وكذلك نُسِجَتْ شبكات الاتصالات المتطورة.
وتغلغل نظام “جي بي إس” في تلك المعطيات كلها.
وفي مثل معبِّر، يعتمد محرك البحث “غوغل” على “جي بي إس”، ويعني ذلك أن “جي بي إس” معتمد في البرنامج الذي يستخدمه مليارات البشر، وبات جزءاً من حياتهم، والأهم أن أعداداً ضخمة من البرامج والتطبيقات تستند إليه. لقد بات البُعد الرقمي نسيجاً أساسياً في قماشة الحياة اليومية. ويصعب العثور على قطاع أو نشاط بشري أساسي لا تتدخل فيه تلك المعطيات.
صراعات القوى الكبرى في فضاء الاتصالات
وإضافة إلى التشديد على أن بدائل “جي بي إس” تمثل خيارات استراتيجية. ووضع الاتحاد الأوروبي نظام “غاليليو” Galileo لتحديد المواقع الجغرافية على الأرض، كجزء من قوة الاتحاد الأوروبي. ولا يصعب تصور أمر مشابه بالنسبة إلى نظام “غلونوس” Glonass الروسي.
ويظهر التشابك بين الاستراتيجي والتقني [المعلوماتي والاتصالي] في منظومة “بايدو” Baidu الصينية التي تشكل جزء “سور الصين الرقمي العظيم” التي تسوِّر “بلاد العم ماو”. وكذلك فإن محرك البحث “بايدو” معتمد في الصين كبديل لمحرك البحث “غوغل”،WeChat و”وويشات” بديل لـ”فايسبوك” وهكذا.
وفي السياق نفسه، وللتشديد على التشابك في معطيات الاتصالات، يمكن استحضار صراعات الدول في التجاذبات الاستراتيجية القوية حول شبكات “الجيل الخامس للخليوي” ووضيعة شبكة “هواوي” الصينية فيها.
إذاً، كما الفضاء كذلك على الأرض. وربما يبدو المثل الصيني قويّاً لكنه يظهر المدى الواسع لمسألة خيار البدائل في منظومة تقنية أساسية واستراتيجية للعالم كله كـ”جي بي إس”.
وليس ببعيد عن ذلك، أن الهند لديها منظومة أقمار اصطناعية لتحديد المواقع الجغرافية تسمى “آي آر إن إس إس” IRNNS، اختصاراً لعبارة Indian Regional Navigation Satellite System. في المقابل، يشكل نظاماً إقليمياً يغطي المدى الهندي أساساً، ولا تعتمده بلاد غاندي كبديل حصري، لأنها تستعمل “جي بي أس” أيضاً.
وفي تفصيل اخر، هنالك بدائل كثيرة عن خوادم نظام “جي بي إس” لتلقي ما تبثه تلك المنظومة، وذلك أمر آخر لكنه يجب أن يؤخذ بالحسبان حين التفكير بخيار البديل عن “جي بي إس”.
وهناك مثل آخر قد يلقي مزيداً الضوء على تلك الصورة.
ثمة جهود لتحويل شبكة “ستارلينك” للأقمار الاصطناعية إلى منظومة بديلة عن “جي بي إس”. والأرجح أن ذلك يمثل انتقال القطاع الخاص الأميركي إلى أنشطة كانت حكراً على الدولة. ولا يصعب تصور المدى الاستراتيجي لتلك النقلة، في ظل الوضع الحالي لـ”ستارلينك” وخوضها في أمدية استراتيجية على غرار حربي أوكرانيا وغزة.
أوضح وزير الاتصالات اللبناني جوني القرم لـ”النهار” أن هناك أقماراً اصطناعية بديلة عن لـ GPS منها نذكر Galileo الأوروبي و BeiDou الصيني. عموماً، هناك أقمار اصطناعية بديلة عن الـ GPS و”الحلول التي نعمل عليها تشمل الاعتماد على أقمار اصطناعية عدة كي لا يكون هناك اعتماد وحيد على الـ GPS كما هو الحال حالياً.”
ورداً على سؤال عن أثر خلل GPS على القطاعات المختلفة كالسائقين وشركات التوصيل، أشار القرم إلى أن الأثر المباشر هو على تطبيق Google Maps الذي يعتمد على GPS وذلك حكماً يؤثر على قطاعات مختلفة تعتمد على تحديد المواقع.
أما بالنسبة لمطار رفيق الحريري الدولي، فيختار وزير الأشغال أي نظام قد يعتمده لتلافي أي تشويش، وفق القرم.
وذكّر مدير الطيران المدني فادي الحسن بالتعميم الرسمي الذي طالب الطيّارين بالاعتماد على الأجهزة الملاحية الأرضية الموجود في مطار بيروت بسبب عمليات التشويش الحاصلة، بعدما كان الاعتماد على أنظمة الـGPS، وهذه الأجهزة الأرضية لا تتأثر بالتشويش القائم وهي معتمدة عالمياً، وبالتالي لا خطر على سلامة الطيران في الوقت الحالي”.