برّي بين نارين.. ونتنياهو مستمرّ بحربه
لبنان في دائرة الضوء إقليمياً ودولياً. هذا أمر مسلّم به. لكنّ ذلك لن يعني إخراجه من الحرب قريباً. فالحسابات لم تكتمل بعد. لا طهران مستعدّة للانسحاب منه، ولا بنيامين نتنياهو أنهى حربه عليه. وما بين إيران وإسرائيل لبنان يتعرّض لحرب تشبه حرب غزة. فنتنياهو يستنسخ نموذج غزة في جنوب لبنان، والحزب يستنسخ مواقف حماس في المفاوضات. أمّا لبنان الرسمي فهو عالق بين نارين: الأولى داخلية، والثانية مع إسرائيل وأميركا وشروطهما التعجيزية المطلوبة لوقف إطلاق النار.
منذ بداية الحرب الإسرائيلية المدمّرة على قطاع غزة، كثر الحديث عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وكأنّه يمسك بقرار الحرب وحده باعتباره المسؤول وحده عن حرب بدأت في القطاع ولا تزال مستمرّة من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن.
في الواقع الأمر ليس كذلك. بل هي الدولة العميقة في إسرائيل التي قرّرت بعد السابع من أكتوبر الدخول في “حرب الوجود”. وهي لن توقف إطلاق النار قبل تحقيق أهدافها. وعليه، كلّ المساعي الدبلوماسية الحالية من مؤتمر باريس وصولاً إلى زيارة الموفد الأميركي آموس هوكستين للمنطقة، ساقطة حتماً في دوّامة العبث، بانتظار إعلان نتنياهو تحقيق أهدافه. وهذه الأخيرة يعبّر عنها صراحة، لا سيما في حديثه عن “القضاء على الحزب وتخليص لبنان من قبضته وقبضة إيران”.
ماذا يعني هذا الكلام وفق المصادر الدبلوماسية الغربية التي تتابع عن كثب ملفّ الحرب الإسرائيلية على لبنان؟
وكيف ستكون تداعياتها على ملفّ التفاوض على القرار 1701 وآليّة تطبيقه؟
دخول بَرّي ثمّ التّفاوض ثمّ الانسحاب
نقلت وكالة الصحافة الفرنسية في الساعات الماضية عن دبلوماسي غربي أنّه طرح فكرة نشر قوات متعدّدة الجنسيات في جنوب لبنان إلى جانب الجيش اللبناني بعد وقف إطلاق النار. وذلك في إشارة إلى قوات خارج إطار “اليونيفيل”.
وقال الدبلوماسي الغربي بحسب الوكالة الفرنسية إنَّ “الدفع باتجاه تطبيق القرار “1701 بلاس” (مع إضافة) هو انعكاس لحقيقة مفادها بأنّ أيّاً من الجانبين لم ينفّذ القرار 1701″.
مصادر دبلوماسية غربية قرأت في هذا الكلام خارطة الطريق التي يضعها نتنياهو للوصول إلى اتفاق يرضي “أمن إسرائيل”. وفيه :
– أوّلاً: خطّة تل أبيب للتوغّل البرّي باتجاه الليطاني وفرضها منطقة محظورة على أيّ حركة ممكنة. وبقاء سيطرة قواتها في جنوب لبنان حتى حصول اتفاق وقف إطلاق النار لإجراء المفاوضات انطلاقاً من واقع وجود قوات إسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية. وبالتالي التفاوض على انسحاب إسرائيل وتثبيت الحدود بشكل يجعلها تفرض شروطها على الاتفاق.
– ثانياً: تطبيق القرار 1701 سقط منذ عام 2006. وبالتالي إسرائيل ليست مستعدّة للدخول في تجربة أخرى مماثلة، وتطالب بإقرار آليّة في مجلس الأمن لإبقائها معنيّة مباشرة بتنفيذ الاتفاق.
– ثالثاً: استمرار تل أبيب بضرب البنية التحتية للحزب حتى إضعافه إلى أقصى الحدود وتهجير بيئته وإفقارها بضرب البنية التحتية الماليّة الخاصّة بها، وتحويل البيئة الأكثر قدرة شرائية في البلد قبل الحرب إلى البيئة الأكثر حاجة. وبالتالي ربط كلّ مشروع إعادة الإعمار بالاتفاق المقبل كشرط أساسي للتخلّي عن السلاح مقابل العودة إلى الأرض.
يستبعد الدبلوماسيون الأميركيون في كلامهم تأثير الانتخابات الأميركية على ملفّ الحرب على لبنان بناء على اعتبار أنّ المصلحة الإسرائيلية هي واحدة وثابتة في كلّ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. لكنّ الأمر يتغيّر بالنسبة إلى طهران التي يمكن أن تؤثّر فيها الانتخابات الأميركية. وبالتالي فإنّ انتظار 5 تشرين الثاني أصبح ملحّاً لتحديد مسار الموقف الإيراني من الصراع.
رئيس تحت النّار.. وبرّي بين نار الدّاخل والخارج
في أروقة الدبلوماسية الدولية كلام واضح: “لا ثقة بأيّ من المسؤولين الحاليين لتنفيذ القرار 1701 ولو تمّ إقرار آلية لتطبيقه”. وبالتالي تحرص القوى الدولية والعربية على حدّ سواء على الضغط لانتخاب رئيس جمهورية يكون في الواقع ضمانة الداخل والخارج لتطبيق أيّ اتفاق دولي سيقرّ لإنهاء النزاع بشكل مستدام. لذلك انتخاب رئيس تحت النار أو في هدنة تحضيراً للدخول في مفاوضات هو أمر ملحّ على الرئيسين بري وميقاتي أن “يخضعا” له.
في المقابل، تدرك المصادر الدبلوماسية أنّ خطاب الرئيس ميقاتي عن تدخّل رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف في التفاوض باسم لبنان، كان منسّقاً مع الرئيس نبيه بري الذي لا يستطيع أن يعلنه بنفسه.
بالتالي تقول المصادر إنّ الرئيس بري في مكان لا يُحسد عليه. فهو يراعي الحزب في الداخل وحريص على عدم حصول أيّ احتكاك شيعي – شيعي أو شيعي مع الطوائف الأخرى، وحريص على عدم الاصطدام مع إيران من جهة، كما هو حريص على عدم الاصطدام مع الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية. ويدرك أنّ نهوض لبنان من هذه الحرب لن يكون إلّا ضمن مسار عربيّ.
عنوانان.. تحت النّار
بالتالي بين نارين يقف الرئيس بري وهو يحاول أن لا يحترق بأيّ منهما. يسعى إلى الالتفاف ببطء لتنفيذ القرارات الدولية تحت النار التي بدأت تقصف المناطق التابعة لنفوذه مباشرة. لذلك صورة بري مع جنبلاط وميقاتي هي خير دلالة على حجم الخطر الذي يواجهه لبنان والذي أدركه الثلاثي فقرّر أن يتصرّف انطلاقاً من الحاجة إلى وقف إطلاق نار فوري.
موقف لبنان الرسمي واضح من حيث تنفيذ القرارات الدولية ولو كان ثمن ذلك إنهاء ملفّ “الصراع اللبناني الإسرائيلي”. إلا أنّ ما ننتظره في الأيام المقبلة، وننتظره تحت النار، عنوانان:
– الأوّل: حجم الردّ الإسرائيلي على إيران.
– والثاني: من سيكون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
وبالتالي لا وقف إطلاق نار فوريّاً في لبنان. والرحمة لأهله الذين يدفعون منذ عقود ثمن حروب الآخرين على أرضهم.