بعد 100 عام: الشيعة “يعودون”… إلى سايكس بيكو

بعد 100 عام: الشيعة “يعودون”… إلى سايكس بيكو

الكاتب: محمد بركات | المصدر: اساس ميديا
29 تشرين الثاني 2024

في 1982، حين سقط بشير الجميّل في وسط الأشرفية التي دافع عنها، اكتشف المسيحيون أنّ العمق الإسرائيلي “كذبة” وأنّ لبنان وطنهم النهائي. وفي 2005 حين فجّر المجرمون رفيق الحريري في وسط بيروت، اكتشف السُّنّة أنّ “لبنان أوّلاً”. اليوم يعود الشيعة إلى قراهم في البقاع والضاحية وجنوب لبنان، بعد نكبة غير مسبوقة، وأمامهم 60 يوماً ليكتشفوا أنّ حدود سايكس بيكو (1916) هي التي حمتهم، وأنّ القرار 1701 (2006)، هو الذي أعادهم… فهل يقتنعون مع الإمام موسى الصدر و”اتّفاق الطائف”، بأنّ “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”؟

 

في 24 نيسان 1920، تداعى أعيان شيعة جنوب لبنان، والتقوا في مؤتمر وادي الحجير، وهو وادٍ تحميه تضاريس صخور جبل عامل، وقرّروا الاعتراض على اتفاقية “سايكس بيكو”. بعد 4 سنوات من رسم حدود خرائط الأوطان الجديدة، قرّر شيعة الجنوب أنّهم سيقاومون “تقسيم الوطن العربي”. وتحت قيادة السيد عبدالحسين شرف الدين، قرّروا التحاق جبل عامل بـ”المملكة العربية السورية”، تحت حكم فيصل بن الحسين، التي أُعلنت في 8 آذار من العام نفسه، أي قبل 46 يوماً فقط.

بعد 24 يوماً فقط، في 18 أيّار، جرّد الفرنسيون حملة من 4 آلاف جندي، فدخلوا عبر البحر من مدينة صور، وأكملوا إلى بنت جبيل. وتولّت حملة أخرى احتلال صيدا والزهراني والنبطية.

أحرقت القوات الفرنسية بيوت الشيعة وقراهم، على ما جاء في مراجع الشيعة وكتبهم. وأحرقت بيت السيّد شرف الدين، وأسرت أخاه. فهرب الشيوخ ومقاتلوهم إلى سوريا والأردن وفلسطين. وظلّ شرف الدين منفيّاً حتّى حزيران 1921، حين عاد وأبرم اتفاقاً (1701؟) مع الجنرال الفرنسي هنري غورو. فعفا عن المعتقلين وأعتق أخاه وأصدر عفواً عن المقاتلين، ووافق “السيّد” في المقابل على الانضمام إلى “لبنان الكبير”.

2024: تكرار خطيئة 1920

يمكن بسهولة قراءة المقطع أعلاه، مع استبدال اسم “السيّد عبدالحسين شرف الدين” باسم “السيّد حسن نصرالله”، واستبدال “فرنسا” بـ”إسرائيل والغرب”، واستبدال “الجنرال غورو” بـ”آموس هوكستين”، و”لبنان الكبير” بـ”1701″.

هي المغامرة نفسها. وهو الوجدان الشيعي نفسه الذي، حتّى 26 تشرين الثاني 2024، أي قبل إعلان وقف إطلاق النار، ظلّ يعيش “خارج” لبنان الكبير، و”خارج” سايكس بيكو، وحدوده التي “أنجبت” هذا الوطن الذي اسمه لبنان، بمساحة 10,452 كلم مربّعاً.

المغامرة كان اسمها هذه المرّة “وحدة الساحات”. وهي اقتراح إيراني أطلقه الأمين العامّ الراحل للحزب، مفاده أنّ شيعة لبنان، بالتعاون مع ميليشيات إيران الأخرى في الدول العربية، تقع على عاتقهم مهمّة “تحرير فلسطين”. فانضمّ الحزب، وأخذ لبنان معه، بالحديد والنار والدماء، إلى “حرب إسناد غزّة” في 8 تشرين الأوّل 2023.

قبل 4 سنوات، في 2 أيلول 2020، حذّر كاتب هذه السطور، في مقابلة على شاشة MTV، بالحرف، من التالي: “إذا لم تنتبه قيادة الشيعة للّحظة التاريخية، ولم تصحّح الخطأ السابق بالاعتراض على فكرة لبنان والدور الشيعي فيه، أخشى أن نعيد تجربة 1920، و100 سنة أخرى خارج الدور السياسي…”.

من أوضح الواضحات أنّ “الحملة” التي شنّها الغرب عموماً على جبل عامل وامتداده البقاعيّ والبيروتيّ، هي نسخة طبق الأصل عن الحملة الفرنسية في 1920. وهي نتيجة “الخطيئة” التي أصرّ عليها قادة الشيعة في 2023، بإعلان انتسابهم إلى “وحدة الساحات”. وهي نسخة طبق الأصل عن خيار “المملكة السورية”. لكن مع “لهجة” فارسية بدل السوريّة والعراقيّة. وهي ردّ “عالميّ” على عدم اقتناع قادة الحزب في لبنان وإيران بأنّ شيعة لبنان “وطنهم النهائي” هو لبنان ولا علاقة لهم بغزّة ولا بسوريا ولا بالعراق ولا باليمن.

1977: “ومضة” اسمها موسى الصّدر

ظلّ الشيعة 100 عام “خارج” فكرة “دولة لبنان الكبير”. من عشرينيات عبدالحسين شرف الدين، إلى أربعينيات المقاومة الفلسطينية، وخمسينيات وستّينيات ناصرية مصر وعروبة سوريا وبعث العراق، إلى سبعينيات “الأممية” الشيوعية وحركة أمل، وثمانينيات “الحزب”، وصولاً إلى إلحاق لبنان كلّه بـ”ولاية الفقيه” الإيرانية، و”وحدة الساحات” الإيرانية الأهداف والمنشأ والتمويل في الألفية الجديدة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000.

100 عام وقيادات الشيعة، وشيء كثير من وجدانهم العامّ، لئلّا نكون ظالمين، لا يعترفون بلبنانيّتهم، إلى أن جاءهم رجل اسمه موسى الصدر، وقال لهم في 11 أيّار 1977، ضمن ورقة عمل ضمّنها مقترحاته لـ”إصلاحات سياسية واجتماعية تدعو إلى إعادة بناء الوطن ومؤسّساته، عبر التمسّك بصيغة العيش المشترك ومواجهة الخطر الصهيوني”: “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”. وهي الجملة التي افتُتحت بها أوّل سطور “وثيقة الوفاق الوطني – اتفاق الطائف” لاحقاً. فكان تغييبه في العام التالي: 31 آب 1978. وبعدها بدأ يتقدّم مشروع “ولاية الفقيه”، العابر للأوطان، من طهران إلى بيروت.

كلّ الكلام الذي نسمعه من قادة “الحزب” عن محبّتهم للإمام الصدر هو محاولة لوراثة محبّيه واستمالتهم. لكنّ المشروع الإيراني في لبنان هو النقيض التامّ لهذه الوصيّة. وكلّ ما فعله الحزب طوال 42 عاماً في لبنان، هو محاولة جعل البلاد “قطعة” من الفسيفساء الإيرانية، خارج مفهوم “لبنان الكبير” وخارج فكرة “الدولة” و”الوطن النهائي”، خلافاً لتعاليم الإمام الصدر.

2024: العودة إلى سايكس بيكو

3 أسباب سرّعت في إنهاء الحملة الإسرائيلية – الغربية على شيعة لبنان قبل أيّام:

1- صمود أبطال الجنوب والبقاع في القرى الأمامية، من الخيام إلى شمع والبيّاضة… والاعتماد المتاأخر على القدرة الصاروخية لدكّ تل أبيب في الأيام الأخيرة.

2- قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت في جرائم حرب. وهو مؤشّر إلى فقدان الحرب الإسرائيلية “مشروعيّتها الغربية”. وقد يتطوّر الأمر إلى قرار في مجلس الأمن يجبر إسرائيل على وقف إطلاق النار.

3- القرار 1701، الذي حملته أميركا منذ اللحظة الأولى على ظهرها، وجاب موفدها آموس هوكستين المنطقة لأشهر محاولاً تطبيقه، وإقناع قيادة “الحزب” بالعودة إلى حدود سايكس بيكو. وقد اكتسب هوكستين قوّة رئيسين أميركيَّين، سابق ومُنتَخَب، جو بايدن ودونالد ترامب، في جولته الأخيرة، مدعوماً من قرار المحكمة الدولية.

اقتنعت إيران، أو ربّما هادنت ولم تقتنع. لكنّ “الحزب” ذهب إلى ما ذهب إليه عبدالحسين شرف الدين قبل 104 أعوام. وافق على طلبات “الجنرال” هوكستين (غورو سابقاً). لكن للأسف، فإنّ “السيّد” لم يعد موجوداً. فقد تبيّن أنّ الفرنسيين كانوا “لطيفين” بنفي شرف الدين، ريثما يقتنع.

أحرقت إسرائيل بلدات الجنوب، وأضافت إليها هذه المرّة البقاع والضاحية، ومعها الأحياء ذات الأكثرية، أو الحضور الشيعي في العاصمة بيروت. وغادر لبنان نحو 500 ألف، من شيعة وغير شيعة، خلال شهرين… إلى أن وافق “الحزب” على الطلب الذي يتقاطع مع حدود سايكس بيكو (1916) وإعلان الجنرال غورو (1920)، ومع وصيّة الإمام موسى الصدر (1977)، ومع دستور لبنان (1989): “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”.

100 عام وقيادات الشيعة، وشيء كثير من وجدانهم العامّ، لئلّا نكون ظالمين، لا يعترفون بلبنانيّتهم، إلى أن جاءهم رجل اسمه موسى الصدر

الحدود التي استمتع أبناء “الحزب” وهم يحطّمونها حين عبروها نحو سوريا في 2011، اكتشفوا أنّها هي من تحميهم، وأنّهم، بحكم التاريخ والجغرافيا، لم يعد لديهم ما يحمي “وجودهم” سواها.

لعلّ شيعة لبنان وهم “يضبضبون” أغراضهم، ويتحضّرون للعودة إلى منازلهم (من بقي له منزل)، يكتشفون أنّ ما يمكن أن يمنع تكرار هذه “التغريبة”، المستمرّة منذ 100 عام، هو اقتناعهم النهائي بأنّ “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، وبأنّ حدود سايكس بيكو، التي قاومناها قبل 108 أعوام، باتت هي لحمنا السياسي، وأنّ القرارات والحماية الدولية، من 1701 إلى غيره، هي العظام التي ستساعدنا على الوقوف مجدّداً، وأنّ العروبة هي جلدنا. فلا نجلد أنفسنا بمشاريع تعادي العرب، ولا نمزّق لحمنا بخيارات تعتدي على القرارات والحماية الدولية، ولا نحطّم عظامنا بتكسير حدود سايكس بيكو.