بطل المصارعة جان سعادة: “لو تعلم يا أندريه شو صار فيي؟”
جان منصور سعادة. آخر أبطال المصارعة الحرّة في لبنان. هو الرجل الذي عاش المجد والعزّ والوجاهة والأضواء والانتصارات الحقيقيّة. إنه الرجلُ المبتسم دائماً على الرغم من تبدّل الحال والأحوال. مقعدٌ أصبح. مكسور الخاطر والوركين والكفين والظهر. أوجاعه كثيرة لكنه يواجهها بالصلاة والصبر وهو العالم أن “أقوى المصارعين في هذه الحياة هم الوقت والصبر والصلاة”. ربح في عمره الكثير وعاد وخسر الكثير. هو اليوم يعيش مع ذكرياته ويتكلم كثيراً في الحلم مع أندريه، شقيقه وتوأمه، الذي “فلّ” من هذه الدنيا، يخبره: “لو بتعرف يا أندريه شو صار فيي؟”. رحلة جان، الأمير المنصور، بين المجد واللحظة تحت المجهر:
إلى برمانا ذهبنا لملاقاته. هناك، في مبنى أبيض، كان يضمّ أحد أقدم نواديه الرياضيّة، يسكن. البردُ قارس والصقيع يُحرك الأوجاع. يجلس في غرفته، على أريكته، قبالة مدفئته مردداً: “الشتاءً باردٌ على من لا يملكون الذكريات الدافئة”. لكن، وهو يتذكر، هل أدرك أن الحياة أجمل في الذكرى منها في الواقع؟ يهزّ رأسه. تلمع عيناه. ويقول: “آخ على هذه الحياة”.
هناك، في حضرة بطل المصارعة الحرّة الحقيقي نعلم أن المجد عمره قصير وأن لا شيء يخلّد ويبقى إلا إصرار الإنسان على استكشاف نفسه. هذا هو مجد جان سعادة اليوم.
رسومات كثيرة على الجدران لا تضمّ صور مصارعين “أنا أضعها وزوجتي تستبدلها بصورٍ أكثر هدوءاً”. يخبر ذلك ويبتسم. أصله من منطقة فتوح كسروان، من الزعيتري في الفتوح. والده منصور ووالدته لبيبة موراني من راس بيروت. درس في “كولاج دي لاسال” (الفرير). وكبر بين ثلاثة إخوة (أندريه وإدوار وميشال) وأخت (ماري تريز). صوته عالٍ. نبرته قوية. ويُكثر من استخدام الفرنسية. وكم هو مقهور اليوم لأنه رفض حيازة جنسية الأم الحنون “سُئلت مراراً للحصول عليها لكني رفضت. هذه غلطة إقترفتها. لو كنت حاملاً للجنسية الفرنسية اليوم لسافرت إلى هناك في أواخر العمر. كنت “مسطولاً”. يكرر ذلك كمن اكتشف متأخراً أن لبنانه لا يستحق كثيراً كثيراً من أبنائه وبناته.
الإصابة بالباركنسون
بطل المصارعة الحرّة الذي داعبت انتصاراته وبطولاته مشاعر اللبنانيين في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي مقعدٌ اليوم، غير قادر على الحراك ويقول “أصبتُ بمرض الباركنسون. لم أعد قادراً على الحراك. كنت أمشي فوقعت. ذهبت إلى الطبيب غير مدرك ما أصابني فقال لي: أنت مريض باركنسون”. أصبح منسياً. بيته أيضاً “كانت هناك خمس آرمات تدل إلى موقع بيتي أزيلت كلها: الحياة تغيرت. الظروف تبدلت. أصبحت الحياة “عاطلة عاطلة”.
فتح سبعة أو ثمانية نوادٍ رياضية آخرها في برمانا في بيت الكتائب. ثلاثة أشهر وأصابه ما أصابه. يبحث في هاتفه عن صور من مجد الماضي فلا يجدها. يعطينا هاتفه لنبحث بدورنا فلا نجد إلا صور قديسين. خسر أرشيفه. ضاع. يعود ويبحث كثيراً عن صوره مع شقيقه أندريه- توأم روحه- فلا يجدها. تلمع عيناه مجدداً. الصور ذكريات. المجد يزول. الفرح عابر. لكن، أن يخسر حتى الصور فهذا يجعله يتنهد ويبلع ريقه ويحزن.
“أندريه كان أنا وأنا كنت أندريه”. يُخبرنا ذلك. البداية، بدايته، كانت من كليمنصو “كنا نسكن هناك ونزلت إلى بيت الكتائب وانتسبتإلى ناديه. بدأت بالمصارعة الرومانية. وأنجزت أول بطولة ونلت أول ميدالية ذهبية. واكتشفتُ موهبتي.اكتشفتُ أن ما أفعله يعجز عن فعله آخرون”.
85 عاماً من “الخبيط واللبيط”
هو حنون، رؤوف، لا يقوى على دعس صرصار حتى، لكنه كان يعرف كيف يواجه على حلبة المصارعة “رياضياً”. نسأله، لكن المصارعة الحرّة تحتاج إلى بعض القساوة، الشراسة؟ يجيب”أنا شرسٌ على الحلبة لا في الحياة. لعبتُ كثيراً. واجهتُ الكثيرين. ربحتُ دائماً لكنني اليوم أصبحت في سن الخامسة والثمانين”. يُكرر ذكر عمره وكأنه يعزي نفسه ويدافع عن ضعفه الحالي “عشتُ 85 عاماً من الخبيط واللبيط. بدأتُ بعمر13 عاماً. انطلقتُ من بيت الكتائب. حملتُ البطاقة الحزبية لاحقاً لكنني لم أهتم يوماً في السياسة. أخذتها لكنني لستُ حزبياً. كنتُ أدفع في نادي حزب الكتائب خمس ليرات شهرياً لكن الشيخ بيار (الشيخ بيار الجميل) حين رآني في الحفلة الشهرية الأولى التي شاركتُ فيها طلب من القيمين على النادي أن لا يأخذوا مني مالاً. صرتُ أتمرّن يومياً. وكنتُ الرقم واحد. كنت مغرماً في الرياضة. من يريدون تجربة قوته يطلبون منه أن يواجهني. ومن يتحدانا كنت له في المرصاد. “أطرقه قتلة”. كنتُ قوياً جداً”. ينظر إلى نفسه اليوم، الى قدميه الخائرتين مردداً “الآن بتّ أدرك أن الحياة ليست سهلة لكن لا بُدّ أن نعيشها حتى النهاية. لا بُدّ أن نظلّ نحلم فيها”. هو يحلم اليوم؟ يجيب “أحلم أن أمشي. البارحة أتاني يسوع في حلمي وقال لي: أمش. أمشِ يا جان. قلت له: لا أستطيع. صرخ بي: قم وامشِ. مشيت. أثق بأنني سأمشي”.
يُكرر كلمة “pardon” (عذراً) وهو يتكلم عن ما كانت عليه أحواله “كنت أوّل دائماً. في المدرسة وفي النادي وفي الحياة. لا أحبّ أن اتكلم عن نفسي. ذهبتُ الى فرنسا وأصبحتُ أولّ هناك أيضاً. أوّل في كلِ شيء. كنت الفتى الأول في التلفزيون الفرنسي. لقبوني الأمير المنصور وطلبوا مني ارتداء الكوفية والعقال”. الإسم العربي كان يداعب الجمهور العربي والفرنسي هناك. ومنصور هو اسم والده العربي. وهو كان منصوراً دائماً. منتصراً دائماً.
التجسير وتوأم الروح
كانت لديه حركة مرونة Soupless، تجسير، لم يقم سواه بها. كيف تعلّم هذه الحركة؟ يجيب “أتت عفوية. وحدها. كنتُ أمسك برجل وزنه مئة وعشرين كيلوغراماً وأنزل به، واضعاً كتفيه على الأرض، فأربح. فعلتُ ذلك بالواحد تلو الآخر. أندريه كان معي دائماً. كان أكبر مني بنحو سنتين. أحبّ مثلي المصارعة وكنتُ دائماً إلى جانبه. من “يتمرجل” عليه يرسله لي فأقوم بالواجب. كانوا ينادوننا the twins brothers. ربيتُ ذقني وربيتُ ذقنه فأصبحنا نشبه بعضنا مئة في المئة. وطلب منا “باركلي” أن نغني في فرنسا ففعلنا. لدينا أغنيتان: Mon Liban و Aida (عايدة هي زوجة جان سعادة لها هذه الأغنية). كنت أغني بالفرنسية عن لبناني فيتابع أندريه بالعربية: لبنان الربيع الغالي”. لبنان، الذي رفع الأخوان سعادة اسمه عالياً استمرّ دائماً في قلبيهما.
يوم قرر الذهاب إلى فرنسا واعتلى أول باخرة إلى مارسيليا قيل له هناك: وماذا تريد أن تفعل هنا الذي فيه الملاكم بريمو كارنيرا؟ (طوله متر و97 سنتمتراً). قيل لي هذا أصغر واحد عندنا فعدْ إلى بلادك في أوّل باخرة. لا مستقبل لك هنا. أصررت وبقيت وحلقت. وكنتُ مثل النمر. صاروا ينادونني الأمير منصور. وشقيقي أندريه الشيخ منصور. وطلبوا مني أن اتوجه ذات يوم إلى الجمهور العربي فتذكرتُ “عبد الناصر” أمسكت الميكروفون وقلت لهم: كونوا أحراراً وإياكم الاستعمار” (يضحك لتلك الايام كثيراً).
تمرّن كثيراً مع شقيقه لكنه لم يتبارى يوماً ضدّه. ويقول بين الجدّ والمزاح “أنا أقوى منه رحمه الله” ويستطرد “لم يقتصر المجد الذي عشناه على الملاكمة بل تعداه الى التمثيل أيضاً. عملنا فيلم مع الممثلة الفرنسية “ميراي دارك” ومع بريجيت باردو. اشتغلنا دوبلاج. وقفزت من على هضبة نهر السين بدلاً من بطل الفيلم. لم يجرؤ أحد آخر على فعل ذلك. ويومها صفقوا لي كثيراً كثيراً”. نتمهل في المتابعة ونتركه يستعيد مجد اللحظة. تقاضى يومها عن هذه اللقطة 50,000 فرنك. ويقول “قال لي يومها المخرج “لا تخف. هناك عقد تأمين على الحياة نظمناه لك”. قفزت ولم أتردد لحظة. كنت مجرماً في حقّ نفسي. لهذا أنا أتألم اليوم بقدر ما نفذت أعمالاً خطيرة”.
كم دوراً خطيراً نفّذ؟ يجيب “لا أتذكر. عشرون، ثلاثون، أكثر. اليوم، أنا في الخامسة والثمانين (يكرر) ولو لم يصبني الباركنسون لنفذت أدواراً بعد”. نتركه مجدداً يحلم.
من المواجهات التي لم ينسها تلك التي جمعته مع “داني لانش” ويسألنا “هل تعرفونه؟ كان وزنه 160 كيلوغراماً ووزني 110 كيلوغرامات. واجهته ولم أتراجع. وصرعته أرضاً في المدينة الرياضية. أندريه كان يتراجع أما أنا فلا”. جيلٌ كامل كان ينتظر نقل مباريات المصارعة الحرّة المباشر في المدينة الرياضية وكان جان- المنصور- يلقنهم دروساً لا تنتسى.
مفهوما الخسارة والانتصار
في زحمة قصصه عن الانتصار نسأله عن مفهوم الخسارة لديه: كم مرّة خسرت؟ يجيب بسرعة “ولا مرّة (يضحك لذلك كثيراً). “الحمدلله تاريخي كله انتصارات حقيقية”. ماذا عن لذة الانتصار؟ يجيب “صدقاً لا أعرف. الانتصار يعني لي le gloir (المجد). والمجد يأتي من الجرأة على البدء. كنت حين أصعد على الحلبة يتجه نحوي العالم. كان يحضر المباريات التي أشارك فيها أكثر من 10,000 خليقة في المدينة الرياضية”.
ماذا عن أعلى أجر تقاضاه؟ يجيب “لا أعرف. لا أتذكر. لم يكن المال يهمني. لكنهم كانوا يعرفون قيمتي. كانوا يطرحون عليّ أجراً فأوافق. لم أكن مصلحجياً. لم يهمني يوماً المال بل المجد. لكنني، أعترف، أنني جمعت الكثير من المال. كنت أعيش مع أخي أندره حياة الملوك”.
عند كلّ محطة يتكرر اسم أندريه على لسانه. هو شقيقه وصديقه وتوأم روحه، فماذا فعل فيه موته؟ يجيب “متّ معه. كان كل حياتي. كنا ننام في سرير واحد. نأكل معاً. نتمرن معاً. نفرح معاً. ونربح معاً. ليته إلى جانبي اليوم. موت شقيقتي ماري تريز ذبحني أيضاً. أتكلم معهما يومياً. أقول لأندريه: “منيح إنك متّ ولم يصبك ما أصابني”.
مثّل ثلاثة أو أربعة أفلام سينمائية مع مديحة كامل وسامية شكري وطروب وملك سكر ويقول عن سكر “كانت جميلة وقريبة جداً من القلب. كنت ألعب أدوار “القبضاي”. نساء كثيرات أعجبنَ به “كنت وسيماً وبطلاً واسمي جذاب “نساء فرنسيات كثيرات “pardon” أغرمن بي. ميراي دارك كان صعباً الاقتراب منها لكننا كنا صديقين. بريجيت باردو كانت صعبة لكننا كنا صديقين”. هل ارتبط بإحداهنّ بعلاقة رومانسية؟ “لا، لا، كنا على علاقة طيبة”. انتحار باردو كم أحزنه؟ يجيب “حزنتُ كثيراً. لا أحد يعرف لماذا. لكنها كانت تعاني من problem”. هل من يعيش المجد يعاني حين يقصى عنه مشاكل؟ “هذا حقاً صعب جداً” ويستطرد “الذي يعيش المجد وبعود وبيتذكر يحزن”. الذكريات “توجع القلب”.
مرّ جان سعادة بلحظات قاسية لكنه “تعوّد”. قويٌ هو ولا يستسلم. هو يعيش اليوم مع زوجته عايدة خليفة “تعرفتُ إليها في “بيتش كلوب”. كانت جميلة جداً. كبرنا معاً. ضهرنا ضهرنا ضهرنا ثم تزوجنا. لدينا ابنتان: سارة جين وجوزيان. ولدي عدد من الأحفاد: سامي ومارك وماريا وتيا و… “. نسي بعض الاسماء وعذره “عمري 85 عاماً”.
فقد كل أرشيفه “لأن لا أحد يهتم”. يتمنى لو لديه العقال والكوفية ليرتديهما امامنا. يعود ليتذكر بيت الكتائب “الشيخ بيار كان مغروماً بي. والشيخ بشير تمرّن عندي. كان مميزاً. قبضاي. يا ضيعانو”. وهو تعرّف على الأخوين الرحباني. “كانا مثلنا نحن الأخوين سعادة… والله يبارك في الإخوة”.
إنطلق جان سعادة بوزن 87 كيلوغراماً. ولعب بوزن 110 كيلوغرامات. أما اليوم فما عاد يعرف كم يبلغ وزنه. ما عاد قادراً على الوقوف. لكنه، يأبى الاستسلام. إنه يقوم بتمارين من على كرسيه وهو من درس الطب الفيزيائي ونال به ديبلوماً في فرنسا. نصغي إليه يتحدث مدركين أن المجد يزول أما التاريخ فيجب أن يسرد قصص الابطال. نسأله عن أبطال زمان فيسمي لنا “إدمون الزعني “القبضاي” الذي كانت آخر أيامه عاطلة”. هو من اهتم به في آخر أيامه. ويسمي “الياس شهلا، مدرب البوكس”. اهتم به أيضا. هل نفهم من ذلك أن البطولات التي عاشوها لم تؤمن لهم الآخرة؟ يجيب “نعم، لأن الكثيرين لا يعرفون كيف يتركون قروشاً بيضاء. أنا كسبت مليون دولار لكن وينن؟ كنا نعيش ملوكاً. افتكرنا أن المجد سيدوم”.
نغادر تاركين البطل جان سعادة يعيش في ذكرياتٍ تستحق أن تروى ويحلم “لو تمكنت من المشي فسأجمع الملاكمين القادرين معاً” و… ويتذكر أن كل من سيذكرهم رحلوا قائلاً “كلما توفي “مصارعجي” ماتت قطعة من قلبي معه”. ويُخبر، في الختام، من يسأل عنه “جان سعادة أصبح على العكازين”.