
لبنان: لا عودة إلى الوراء
يستعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب لزيارته الخارجية الأولى، بعد زيارة الفاتيكان والتي فرضتها وفاة البابا فرنسيس، والمخصّصة للسعودية والإمارات وقطر بدءاً من 13 أيار ولغاية 16 منه. ويسعى ترامب لأن تشكّل زيارته محطة تاريخية لناحية إنجاز الإتفاق النووي مع إيران، وإلى جانب ذلك الإعلان عن اتفاقات نووية وتسليحية مع السعودية، إضافة إلى ملف التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل، ما سيفتح الباب أمام تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
وقد يبدو الوقت ضاغطاً لناحيتين: أمام إتمام التفاهم النووي وملحقاته مع إيران، وأمام إنجاز تسوية إسرائيلية ـ فلسطينية. لكن وبغض النظر عن عامل الوقت إلّا أنّه بات واضحاً أنّ المنطقة موضوعة أمام ترتيبات على مستوى معادلات جديدة يتمّ بناؤها على أنقاض التوازنات التي قامت سابقاً. لأجل ذلك ربما اندفعت القوى الإقليمية الكبرى في لعبة تحسين المواقع والتقاط الأوراق، ليقينها بأنّ الماضي مضى والشطارة في تأمين مقاعد مريحة للعقود المقبلة. ولا حاجة للتذكير دائماً بأنّ الساحة اللبنانية تدخل في صلب التبدّل الكبير الحاصل.
ويراهن ترامب على إتمام إنجازه الشرق أوسطي وهو بأمسّ الحاجة لانتصار يرفعه في يده. فإذا كانت حصيلة مدة المئة يوم الرئاسية بمثابة مؤشر أو مقياس مبكر إلى كل الولاية لاحقاً كما يعتقد المراقبون، فإنّ نتائجها لا بدّ من أن تُقلق ترامب. ذلك أنّ جميع استطلاعات الرأي التي أجرتها المؤسسات المختصة لمناسبة انقضاء مهلة المئة يوم، أظهرت تراجع نسبة مؤيدي ترامب وبمقدار كبير، وتراوح بين 5 و9 نقاط. فمؤسسة «بيو» المعروفة بدقتها ومهنيتها أوردت نسبة 40% لمصلحة ترامب. أما «الواشنطن بوست» فتحدثت عن 39%، مع العلم أنّ نسبة مؤيدي ترامب تراوحت الشهر الماضي بين 45% و47%. ولا شك في أنّ الدعسة الناقصة الأساسية في قرارات ترامب كانت في موضوع زيادة الرسوم الجمركية، إلّا أنّه بات مضطراً إلى البحث عن انتصار كبير ليغطي على النتائج السلبية التي حصلت. ومن هنا التركيز والرهان على إنجاز تاريخي في الشرق الأوسط.
وفي واشنطن هنالك نظريات كثيرة ومتناقضة حيال النيات الفعلية لإيران وجدّيتها. لكن الميزان بدأ يميل لمصلحة اقتناع النظام الإيراني بالذهاب إلى الإتفاق ودفع الثمن المطلوب. فالتركيبة الإقليمية التي بناها قاسم سليماني فقدت أسسها وتفكّكت، في وقت لا تبدو الظروف واقعية أمام طهران لإعادة بنائها. لا بل إنّ الأثمان الإقتصادية الباهظة التي دفعتها إرتّدت سلباً على الأوضاع الداخلية بسبب العقوبات، وهو ما بات يضع الإستقرار الداخلي على المحك. ولذلك هنالك من يعود الى آب 1988 مع قبول إيران بإنهاء حربها مع عراق صدام، وعبارة الخميني الشهيرة «تجرّعت السم». لكن ظهور تفسخات داخلية ألزمت السلطة بوقف الحرب والعودة إلى الداخل لضرب المعارضين وإعادة الإمساك بالوضع. ولكن وبعد النجاح بتحصين الوضع الداخلي تمّ صوغ مشروع إقليمي ركيزته «حزب الله» وسوريا و»حماس».
وفي السياق نفسه، يكشف الموفد الأميركي إلى الشرق الأوسط دينيس روس في مقالة له، أنّ في العام 2003 وإثر الغزو الأميركي للعراق، ظنّ الإيرانيون أنّهم الهدف التالي. لذلك تقدّمت إيران باقتراح واسع النطاق يتضمن تعليق تخصيب اليورانيوم وإنهاء الدعم العسكري لـ«حزب الله» وحركة «حماس»، لكن الصقور في إدارة بوش رفضوه. ويتابع روس، أنّ في العام الماضي وإثر مقتل ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة «القائم» شمال الأردن بمسيّرة أطلقها فصيل عراقي موالٍ لإيران، ردّت إدارة بايدن بقصف 85 هدفاً مختلفاً في العراق. ويضيف روس، أنّه خشية من أن تتمدّد الضربات لتطاول إيران ذهب قائد فيلق القدس قآني إلى بغداد وأقنع الفصائل الموالية لإيران بوقف لإطلاق النار لمدة 6 أشهر.
واستناداً إلى ما تقدّم، فإنّ الإستنتاج بأنّه تحت وطأة الخشية من المسّ بالإستقرار الداخلي، ستجد إيران نفسها مضطرة إلى «شرب السم». ولا بدّ هنا من الإشارة إلى الإرتباك الإيراني الرسمي في الإدلاء بروايته حول الإنفجار الهائل الذي طاول أكبر ميناء للحاويات في إيران، والتأرجح حول أسبابه قبل الإستقرار على فرضية الإهمال.
وهذا ما يجعل الميزان يميل لمصلحة الفريق الذي يراهن على جدّية إيران في مفاوضاتها. لكن أصحاب هذا التوجّه وبناءً للتجارب التاريخية، يبدون خشيتهم من ارتداد إيران مجدداً في اتجاه ساحات المنطقة، بعد أن تكون قد فكّت طوق العقوبات عن عنق اقتصادها. فالساحة السورية التي «نحرت» مشروع إيران الإقليمي لا تزال تعيش في حالٍ من الفوضى العارمة والتي ستغري إيران للتسلل مجدداً عبر التناقضات السورية. وانطلاقاً من هنا ارتفعت بعض الأصوات في واشنطن تطالب بالسعي لمنح إدارة الرئيس السوري أحمد الشرع بعض الأوكسيجين لإراحته داخلياً ولو بنحو محدود. وفي الوقت نفسه طالبت هذه الأصوات بالسعي لحماية الأقليات من دروز وأكراد وعلويين ومسيحيين، من أجل الحفاظ على شيء من التوازن الداخلي. فاختلال التوازنات في سوريا لن يقتصر على الإستقرار داخل سوريا، بل سيهدّد النظام الملكي الأردني وتوازنات السلطة الفتية التي قامت في لبنان. والمقصود هنا طبعاً لا يتعلق بالعوامل المحلية فقط بل بالتدخّلات الإقليمية القوية بدءاً من إسرائيل ومروراً بتركيا، وهو ما يعيد فتح شهية إيران للعودة.
وفي السابع من نيسان وخلال زيارته للبيت الأبيض، لم يستطع نتنياهو إخفاء توتره من خلال ابتسامة صفراء، عندما أشاد ترامب بأردوغان ودوره في سوريا. واستمر قلق نتنياهو حتى عندما أبدى ترامب استعداده لحل أي مشكلة بين إسرائيل وتركيا. قبل ذلك كانت إسرائيل تسعى لمنع تركيا من التمركز في تدمر وسط سوريا، معتبرةً ذلك بمثابة خط أحمر. لكن إسرائيل اضطرت بعدها للجلوس مع الأتراك في أذربيجان، الدولة التي نسجت علاقات وثيقة مع كلا البلدين. إلّا أنّه يصعب تنظيم العلاقة في سوريا بين بلدين لديهما مصالح متناقضة. ففي موازاة سعي تل أبيب لدى واشنطن بغض نظرها عن المتبقي من الوجود العسكري الروسي في سوريا بعد أن تمّ تفكيك معظم البنية التحتية العسكرية الروسية لتنحصر في قاعدة حميميم، عملت إسرائيل على تعزيز علاقتها بالأكراد شمالاً ونسج علاقات أكثر متانة مع الدروز جنوباً. وفي هذه الخانة يمكن وضع الاشتباكات الدامية التي اندلعت فجأة وسط قلق درزي متنامٍ من نظام إسلامي متشدّد يتمركز في دمشق.
ويضغط اللوبي اليهودي في واشنطن على إدارة ترامب لعدم استبدال الهيمنة الإيرانية بأخرى تركية. فمن الواضح أنّ واشنطن كلّفت أردوغان بناء حائط صدّ في وجه إيران. وهذا التلزيم سمح لأردوغان بالإنقضاض على أقوى معارضيه رئيس بلدية اسطنبول وسط صمت دولي مطبق. وما يُقلق إسرائيل أيضاً سعي أردوغان لتوسيع حضوره الإقليمي عبر دخوله على خط تسوية الوضع في غزة من خلال حركة «حماس».
وإزاء هذه الحسابات المعقّدة والمتشابكة كان لا بدّ من أن يتحرك الوضع في لبنان مجدداً ولو بشكل محدود. فلقد تعمّدت إسرائيل الإعلان عن أنّ الغارة الأخيرة على الضاحية الجنوبية لبيروت تمّ إطلاع واشنطن عليها مسبقاً. فهي استهدفت مخزناً احتوى صاروخين. ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة فإنّ «حزب الله» الذي رفض في البداية دخول الجيش اللبناني إلى الموقع عاد وسمح بذلك إثر تهديد إسرائيلي نقلته اللجنة العسكرية بتدمير المخزن الموجود تحت الأرض. وعمل الجيش لاحقاً على نقل الصاروخين وتدميرهما. وفحوى الرسالة الأميركية أنّه بمعزل عن المفاوضات والتطورات إلّا أنّ العودة بلبنان إلى الوراء غير واردة. وتتسلّح واشنطن بالملحق الذي وافق عليه الثنائي الشيعي للقرار 1701، والذي يسمح بالتحرك الجوي الإسرائيلي بعد آلية محدّدة. وتزامن ذلك مع صدور معلومات تتحدث عن إمساك الجيش بنحو 500 موقع لحزب الله في جنوب الليطاني وشماله. ولا حاجة لأي تفسير.
في المقابل، جال الوفد القضائي الفرنسي خالي الوفاض ومن دون أي مستندات قيل إنّ باريس تمتلكها عن انفجار مرفأ بيروت. وكان قد وصل إلى العواصم الغربية أنّ ملف المرفأ يشكّل خطاً أحمر لدى الفريق الشيعي. فهل هنالك من يفكّر بمقايضة ما بين المرفأ والسلاح في موازاة المفاوضات الأميركية ـ الإيرانية، والتي لا بدّ من أن تلحظ ملف إعادة الإعمار؟
كما أنّه لا بدّ من الإشارة إلى التوقيت الذي اختاره الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة لبنان، والتي سيجري خلالها البحث في السلاح الفلسطيني في المخيمات. فزيارة عباس من المفترض أن تحصل بعد انتهاء زيارة ترامب للمنطقة. وهو ما يرفع منسوب الأمل اللبناني في نجاح التسويات الكبرى المطروحة، لكن هذا لا يلغي القلق الدائم بسبب التطورات الدموية في سوريا. وهو ما يؤكّد صوابية قرار السلطة اللبنانية بالسير في تروٍ وحكمة للوصول إلى الأهداف المطلوبة، وليس بسلوك متهور وغرائزي سيؤدي حكماً إلى الغرق في وحول وبرك دماء خرجنا منها للتو.