احتضار قوّة العمل

احتضار قوّة العمل

الكاتب: محمد وهبة | المصدر: الاخبار
1 ايار 2025

يصعب تقديم أي تصوّر إيجابي للعمّال في عيدهم السنوي. فالوظائف التي ينتجها اقتصاد لبنان ما تزال بالمواصفات نفسها؛ هشّة، ذات قيمة مضافة متدنية، لا تتماهى مع مستويات الخريجين… السبب هو أن نموذج الاقتصاد السياسي في لبنان انتقل من مرحلة الأزمة إلى التصحيح العشوائي. ظلّ كما هو، إنما اعترته انحرافات أعمق.

هو نسخة مشوّهة عن النموذج الذي ساد في سنوات ما بعد الحرب الأهلية. فلا الانهيار المصرفي والنقدي دفع السلطة نحو التغيير، ولا الحرب بكل نتائجها المدمّرة أثمرت ذلك.

حدثان بهذا الحجم جرى التعامل معهم وفقاً لمنطق الحياد السلبي الذي أنتج تصحيحاً عشوائياً في بنية هذا النموذج، ما أدّى إلى المزيد من الاختلالات في الاقتصاد والتشوّهات في النسيج المجتمعي.

التصحيح يحصل من دون أي تدخّل للسلطة، فاتّجهت الكفاءات نحو الهجرة وتدنّت أكثر قدرة الاقتصاد على خلق وظائف ذات قيمة مضافة عالية، واتّسعت الهوّة بين الأرباح والأجور… باختصار يمكن القول إن قوّة العمل في لبنان كانت مهمّشة وهي الآن تحتضر.

المصارف وهي درّة تاج النموذج الاقتصادي في لبنان خسرت أكثر من نصف أجرائها وكفاءاتها

قبل الانهيار المصرفي والنقدي، كانت قوّة العمل الرئيسية تتمركز في القطاع المالي، أي في المصارف وشركات التأمين وشركات الوساطة المالية وسواها.

كان أبلغ تعبير عن هذا الأمر أنه لدى المصارف قوّة عمل يتجاوز عديدها الـ25 ألف أجير. ثمة نسبة وازنة من هؤلاء كانت قوّة عمل ذات كفاءة مرتفعة بالشهادات العلمية وبالخبرة والمعرفة.

بحسب التقرير السنوي الصادر عن جمعية المصارف، فإنه في عام 2018 كانت نسبة حملة الشهادات الجامعية تبلغ 80% من مجمل موظفي المصارف، و75% منهم تقنيون يحملون مهارات تكتسب بالتعلم والخبرة والتدريب و26% هم كوادر يتحمّلون مسؤوليات في المراكز الأعلى.

في حينه، كان المتوسط السنوي لراتب موظّف المصرف يبلغ 2800 دولار مقارنة مع حدّ أدنى للأجور يبلغ 447 دولاراً، وإذا احتسبت التقديمات الأخرى، أي الراتب الأساسي مع تعويضات النقل وبدلات التعليم وسواها، فإن متوسط كلفة الأجير في المصرف كانت تصل إلى 4244 دولاراً.

أما في نهاية 2023، وبحسب التقرير السنوي لجمعية المصارف، فقد انخفض عدد العاملين في القطاع بنسبة 54.4% ليبلغ عددهم 14860 أجيراً (العدد أصبح أقلّ في 2024 ولكن لم تصدر أي إحصاءات عن جمعية المصارف بعد).

صحيح أن نسبة التقنيين وحملة الشهادات الجامعية لم تتغيّر كثيراً، ولكن من الواضح أن الذين أنهوا مدة عملهم في القطاع هم من أصحاب الكفاءات والخبرات التي ذهبت تبحث عن عمل في مكان آخر بأجر يساوي ما كانت تحصل عليه قبل الانهيار أو يكاد يساويه.

فقد بلغ متوسط أجور القطاع 263 دولاراً لكل أجير، أي 9.4% مما كان عليه قبل الانهيار، وإذا احتسبت التقديمات الإضافية، فإن كلفة الأجير تبلغ 882 دولاراً، أي 20.7% مما كانت عليه في 2018.

هذه الأرقام تعود إلى درّة تاج النموذج الاقتصادي للبنان، أي المصارف. فقد كان لبنان مصمماً ليكون محور جذب التدفقات الآتية من الخارج. كان هذا النموذج يحتاج إلى جهاز مصرفي كبير يتألف من 65 مصرفاً يعمل لديها أكثر من 25 ألف أجير.

كانت المصارف هي القلب النابض لنموذج لبنان الاقتصادي. كانت ربّ العمل الأكبر في لبنان، وكانت أكبر دافع للضرائب، وكانت جهازاً يتابع التطوّرات العالمية في إدارة العمل المصرفي ويحدّث بنيته دائماً ببرامج العمل والآليات والأجهزة… كان القطاع المالي وأساسه المصارف، يستحوذ على الحصّة الأكبر من الأجور المصرّح عنها، وكان يستحوذ على الحصّة الأكبر من الأجور في الشطور العليا.

وكان يحقق أرباحاً طائلة. وإلى جانب ذلك كلّه كان القطاع هو الأكثر تحقيقاً للأرباح، والفئة المدلّلة في بنية هذا النموذج التي لم يكن يقال لها «لا». كانت التشريعات ترسم وتحدّد على أساس ما يضرّ القطاع وما يفيده، وكانت أسعار الفوائد تحدّد حصراً من أجل استمرار ربحيتها المرتفعة، حتى أن مستويات الأجور في لبنان كانت تقف عند خاطر أصحاب المصارف.

كان التشوّه كبيراً، وكان سقوط القطاع مدوياً من مصرف لبنان إلى المصارف التجارية وسائر فئات القطاع المالي.

فبإفلاس المصارف، لم يعد الاقتصاد ينتج قوّة عمل ذات قيم مضافة مرتفعة. هذا الأمر لا يعود إلى أن المصارف كانت تنتجها، بل إن النموذج كان مصمماً ليقوم بذلك، وإن غياب السلطة عن تنمية قطاعات أخرى في القطاعات التقليدية أو المبتكرة، أدّى إلى تركّز الوظائف هناك. والانهيار لم يكن مجرّد عارض كبير، بل أظهر حجم التفسّخ في بنية هذا النموذج الذي قام على اجتذاب الأموال من الخارج وإنفاقها في الداخل على شراء سلع مستوردة. عملياً، لم يكن لدى لبنان إنتاج محلّي.

لم تكن الاستثمارات الخاصة والعامة والإعفاءات والمزايا التي يقدّمها النموذج بكل أركانه السياسي والتشريعي والتنفيذي والقضائي، مصمّمة لتصيب قطاعات أخرى. فمن كان يعتاش على القطاع المالي كان يمكنه تحقيق الأرباح ورفع مستويات الترف في نموذج يثبت سعر الصرف ويدعمه لخدمة الاستهلاك والمستهلكين.

لنأخذ مثلاً قطاع العقارات الذي كان يتموّل من المصارف للتجارة بالأراضي.

كان الأمر بسيطاً، إذ يمكن شراء أرض بقرض من المصرف يمنحه هذا الأخير بضمانة قيمة الأرض نفسها، وكان يكفي سداد بضع دفعات لبيعها لاحقاً بسعر أعلى سواء جرى تطويرها إلى عقار مبني أو ظلّت أرضاً غير مبنية. أتاح التمويل المصرفي لفئات من الناس امتلاك سيارات ذات كلفة متوسطة، وأتاح لفئات أخرى إجراء عمليات تجميل، وأتاح لغيرهم توسيع استيراد السلع وبيعها في الداخل بأسعار مربحة جداً.

كان النموذج عبارة عن حلقات متصلة في ما بينها موجّهة ضمن مسار واحد انتهى إلى الانهيار. أما الآن، فقد ترك النموذج ليصحح نفسه بعيداً من أي تدخّل، وهو ما فاقم التشوّهات والاختلالات التي بُني عليها النموذج.

من هذه التشوّهات هجرة الكفاءات التي أصبحت نمطاً. النموذج لم يخلق في السنوات الماضية وظائف لإبقاء هذه الكفاءات والاستفادة منها، وبعد خمس سنوات على الانهيار المصرفي والنقدي وفقدان نسبة كبيرة من هذه الكفاءات، ليس في إمكان هذا النظام أن يخلق وظائف لإبقاء الكفاءات التي سينتجها في السنوات المقبلة.

قوى العمل بكل فروعها تعاني من الاحتضار. السلطة بعمقها الطائفي وببنيتها الفاسدة بنت نموذجاً يمكن أن ينهار ويتكسّر، ولكن لا يبدو حتى الآن أنه يمكن استبداله، بل إعادة إعماره بمزيد من الانحرافات.