صراع الأحزاب والزعامات يحدد مصير انتخابات المتن

صراع الأحزاب والزعامات يحدد مصير انتخابات المتن

الكاتب: ندى أندراوس | المصدر: المدن
2 ايار 2025
تُعتبر انتخابات اتحاد بلديات المتن الشمالي من أبرز المحطات المحلية في استحقاق العام 2025، لما لها من تأثير يتخطى الإطار البلدي التقني ليصل إلى عمق التوازنات السياسية والتحالفات الحزبية والعائلية في أحد أكثر أقضية جبل لبنان حساسية ونفوذاً.

الاتحاد، الذي يشكل مظلة إدارية لثلاث وثلاثين بلدية من أصل خمس وخمسين، يتمتع بصلاحيات حيوية، لا سيما في ما يتعلق بمنح رخص البناء، والاستثمار والتملك في قضاء يقال إنه قلب لبنان من حيث الجغرافيا، ما يجعله مركز ثقل في لعبة النفوذ المحلي، وهدفاً مشتهى من القوى السياسية التي تنظر إليه كرافعة تمهيدية لخوض الانتخابات النيابية المقبلة. ففي الحسابات السياسية الدقيقة، من يربح الاتحاد اليوم يملك القدرة على نسج شبكة خدمات ومصالح وتحالفات تؤهّله لتأمين كتلة انتخابية وازنة غداً.

رمزية معركة المر الجميل
في قلب هذا المشهد، تبرز معركة رئاسة الاتحاد كأكثر من مجرد سباق بلدي. فهي تُختزل في صراع رمزي بين رئيسة الاتحاد الحالية ميرنا المر، إبنة النائب والوزير الراحل ميشال المر، ورئيسة بلدية بكفيا المحيدثة، نيكول الجميل، ابنة رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل. طرفا المعادلة يمثلان مدرستين سياسيتين لطالما تنافستا على زعامة المتن السياسية، ما يجعل هذا الاستحقاق اختباراً مباشراً لمكانة العائلتين في المعادلة المتنية المستقبلية.

لم تكن انتخابات اتحاد بلديات المتن الشمالي يوماً مجرد استحقاق إداري، بل شكّلت منذ نشأته في سبعينيات القرن الماضي مرآةً لصراعات القوى السياسية على المستوى النيابي والوطني. ففي مرحلة ما بعد الحرب، رسّخ النائب ميشال المر حضوره في الاتحاد عبر شبكة علاقات مع العائلات والمخاتير، مكّنت فريقه من الإمساك بمفاصل القرار البلدي لعقود. وقد أدار المر المعركة بأسلوب “الحكم المحلي المقنّع”، حيث كانت التنمية أداة للضبط السياسي، ووسيلة لجمع الولاءات.
في المقابل، سعى حزب الكتائب اللبنانية، بعد عودته إلى الساحة السياسية وفي خضم سطوة الوصاية السورية على القرار في لبنان، إلى استعادة حضوره في المتن من بوابة البلديات. لكن المر حافظ على نفوذه وتحالفاته الواسعة، لاسيما في مرحلة الوصاية السورية عندما كان شريكاً في القرار السياسي وحليفاً للترويكا، وأعطي المتن الشمالي خصوصية بلدية ونيابية بناء على رغبته، وهو ما كان يقف عائقاً أمام بروز منافس فعلي، خصوصاً وأن المر نجح أيضا في إستقطاب “المتنيين” وإحتضان عدد كبير منهم نظراً للخدمات التي كان يخصهم بها كما وإحتضانه للملاحقين والمعارضين للوصاية.

لعبة العائلات والأحزاب
بعد الانسحاب السوري عام 2005، وتغير المعادلات السياسية وعودة القوات اللبنانية ودخول التيار الوطني الحر على اللعبة السياسية والساحات المسيحية من بابها العريض، كأقوى وأكبر حزبين يمثلان المسيحيين، بدأت خارطة التوازنات المحلية تتغير وأصبح المتن، كغيره من الدوائر، ساحة تتقاسمها الأحزاب المسيحية مع القوى المحلية المستقلة.
وفي إنتخابات 2010، حاولت الكتائب اللبنانية إستعادة المبادرة، ونجحت في تحقيق خروقات بلدية محدودة، أبرزها في بكفيا، لكنها لم تتمكن من فرض أي معادلة في الاتحاد. وفي انتخابات 2016، استمرت السيطرة التقليدية لآل المر، رغم بداية تراجع الوزن النسبي لتحالفاتهم في بعض البلدات الكبرى، نتيجة تحالفات ظرفية بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر من جهة، وتشتت الخصوم من جهة أخرى.
معركة 2025 إذاً لا تأتي من فراغ، بل تُبنى على إرث سياسي طويل من المواجهات غير المتكافئة أحياناً، والتسويات المرحلية أحياناً أخرى. لكنها تختلف في كونها أول استحقاق بلدي بعد الانهيار الاقتصادي والنقدي في لبنان، وانهيار النظام السوري وحكم آل الاسد وبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والتي لم تسلم منها بعض البلدات المتنية، ما يجعل كل المتنافسين يراهنون على المزاج الشعبي، ومحاولة التأثير عليه ووضعه تحت خيار من إثنين في صندوق الاقتراع: “الزبائنية” أو”الجدية الإنمائية”. كما أنها تُعد محطة حاسمة لرسم التحالفات التي ستُبنى عليها خريطة الانتخابات النيابية المقبلة، وتحديد من يملك الأرض والخدمات، ومن يحتاج إلى إعادة التموضع.

تحالفات متشابكة وخلفيات متناقضة
ومع أن بعض القوى تحاول تقديم الانتخابات في ثوبها الإنمائي، فإن الأحزاب تخوضها بأقصى ما تملك من نفوذ من خلف العائلات. يسعى حزب الكتائب إلى تثبيت موقعه وحضوره التاريخي، كأحد أكبر الناخبين في المتن عبر استراتيجية التحالف مع العائلات والمجتمع المدني، متجنباً فرض مرشحين حزبيين صريحين. في المقابل، تجهد القوات اللبنانية لتعزيز حضورها في القضاء عبر علاقاتها مع المخاتير وأعضاء المجالس البلدية، مستندة إلى تنظيم حزبي فاعل وخطاب بلدي نشط.

هذان الطرفان اللذان افترقا في العديد من المحطات، وإلتقيا في أخرى، ورغم تاريخهما المتنافر، يتقاطعان اليوم في الاستحقاق البلدي في المتن في إطار تغليب الطابع الإنمائي على الاستحقاق، وإخفاء البُعد الحزبي خلف تحالفات عائلية. لكن المتابعين لا يخفون مخاوفهم من أن يدفع الكتائبيون مجدداً ثمن تسهيلهم تمدد القوات، في إستعادة لتجربة الثمانينيات حين فُرض على الرئيس أمين الجميل الخروج من المتن وتسليم مراكز الكتائب وسلاحها لـلقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع. ولهذا يخشى البعض من أن يدفع حزب الكتائب ثمن تركيز معركته بشكل أساسي على رئاسة الاتحاد مقابل عقد تحالفات تجعله يتراجع على مستوى التمثيل البلدي لصالح أكثرية قواتية تتحكم بالمجالس البلدية.
أما تيار آل المر، ولاسيما النائب الشاب ميشال المر، فيعول في معركته على ماكينة انتخابية واسعة، وتحالفات متجذرة مع العائلات، ورثها عن جده النائب الراحل ميشال المر. إضافة إلى تفاهمات عقدها “على القطعة”، يبقى أبرزها مع التيار الوطني الحر.
يحاول المر الحفيد ان يقدّم نفسه كممثل للخط العائلي اللاسياسي، داعياً إلى حصر التنافس ضمن الإطار الإنمائي، ومذكّراً بما حققه جده ومن ثم والده الوزير السابق الياس المر، من مشاريع مفصلية في المنطقة، من سرايا جديدة المتن إلى قصر العدل، ومباني الهاتف والقوى الأمنية، وأوتوستراد المتن السريع، إلى الخطة الخمسية للبنى التحتية. ولكن تغير المزاج المتني وعودته ليكون ساحة نفوذ يتقاسمها مع الاحزاب المسيحية الأقوى وأكثر إنتشارا، أضف إلى ذلك خصوصية الوجود الكتائبي في المتن على مر التاريخ، كلها تفرض نفسها على طاولة حسابات الربح والخسارة من البلديات وعدد رؤساء البلديات المحسوبين عليه، والذين يفترض ألا يقل عن سبعة عشر من أصل ثلاثة وثلاثين، الذين يحتاج إلى فوزهم لينتخبوا مجددا ميرنا المر رئيسة للاتحاد.

التيار الوطني وبرنامجه البلدي
وسط كل هذا المشهد، يحاول التيار الوطني الحر أن يقدم نفسه على أنه بيضة القبان في الاستحقاق البلدي المتني، حيث يتحالف مع آل المر أحياناً، وأحياناً أخرى مع القوات والكتائب أو الحزب السوري القومي الاجتماعي ومجموعات مدنية وعائلات. كما يقارب ترشيحات مناصريه أو من يدورون في فلكه وفق برنامج إنمائي بامتياز يركّز على: رقمنة الادارة المحلية، تعزيز اللامركزية المالية، حماية الأملاك العامة والبيئة، إطلاق مشاريع الطاقة المتجددة والنقل الداخلي، تحسين الجباية ومكننة دوائرها، تفعيل الرقابة على الصفقات والتلزيمات، وربط البلديات بمؤسسات الدولة إلكترونياً.

هذه العناوين، ضمن البرامج، على تنوعها، تُختبر اليوم في معركة تحتدم فصولها بوضوح في أرقام الترشيحات، إذ بلغ عدد المرشحين في قائمقامية المتن 1994 مرشحاً، بينهم 1464 للمجالس البلدية، 331 للمخاتير، و199 للهيئات الاختيارية، ما يؤكد أن الحماسة الشعبية لا تقل عن الحماسة السياسية.
وفي هذه الأجواء، يبدو وبحسب المراقبين، أن التيار يسعى للحفاظ على موقعه  بل وحتى الحد من الخسائر، وليس المنافسة على زعامة المتن او تحقيق تمثيل أكبر. مع العلم أن الأحزاب المسيحية والقاعدة الشعبية تراقب حركة ونشاط التيار الوطني الحر في المعركة الانتخابية البلدية ونتائجها لتقيس عليها ما سيكون عليه الوضع خلال الانتخابات النيابية، خصوصاً ان التيار اليوم خارج الحكومة وبالطبع خارج قصر بعبدا وقد إختار أن يكون في المعارضة وفي مواجهة مع أكثر من طرف وقد انضم إليهم لاعبون جدد.

في المحصلة، قد تكون انتخابات اتحاد بلديات المتن الشمالي محطة محلية من حيث الشكل، لكنها في الجوهر إختبار سياسي ووجودي لزعامات تاريخية، وأحزاب طامحة، وتحالفات تتبدل كلما اقتضت المعركة. وحده الناخب المتني يملك مفتاح التوازن المقبل، في معركة لم تُكتب فصولها الأخيرة بعد.