
مهرجان الشاحنات: رشوة مقنّعة تهدّد الانتخابات البلديّة في البقاع
فعَلًا، سيكون من الجميل أن يحظى البقاعيون، في خضم أزمتهم، ببصيصِ أملٍ بعد سنواتٍ من مسلسل الاشتباكات المسلّحة والتفلّت الأمنيّ. والأجمل أن تُستأنف الانتخاباتُ البلديّة بعد توقّفها القَسريّ، فيتسنّى للبقاعيّ القاطن على الحافة الأخيرة من لبنان، وفي هامش أولويّات الدولة، أن يمارس حقَّه في الاختيار بعيدًا عن سطوة الأحزاب الّتي جعلت محنته دائمة. وما أبلغَ الإثارة لو تُتوَّج هذه الانفراجةُ بصعود لوائحَ تغييريّةٍ حقيقيّةٍ تضمّ شاباتٍ وشبابًا أصرّوا، رغم عبثيّة الواقع، على خوض المعترك الانتخابيّ لتغيير واقعهم؛ علّها تكون استراحةً قصيرةً يلتقط فيها البقاعيُّ المنكوب أنفاسه.
هندسة حفلٍ رسميّ كدعاية
اليوم وفي ذروة موسم الانتخابات البلديّة والاختياريّة، اختار اتّحادُ بلديات بعلبك يومَ العاشر من أيّار الجاري، قصَّ شريطِ تسليم شاحناتِ رفع النفايات وافتتاحَ مركزٍ جديدٍ للدفاع المدنيّ، تحت رعاية وزيرة البيئة تمارا الزين وبحضور ممثَّلَيْ حركة “أمل” و”حزب الله”. بدا المشهدُ استعراضًا انتخابيًّا مكتملَ الأركان: مالٌ عامٌّ مموَّلٌ من برنامجٍ أمميٍّ ودعمٍ ألمانيّ، وخدماتٌ تُقدَّم قبل الاقتراع بأسبوعين، ومنصّةٌ تعجّ بالخطابات الحزبيّة.
الهندسةُ الدعائيّة للحفل ظهرت في دعوةٍ رسميّةٍ وَعَدَت الحضور بفيلمٍ عن “إنجازات الاتحاد” وكلماتٍ للجنة “اتحادنا قوّة”، ثم لمسؤول الشؤون البلديّة في “أمل” بسّام طليس، ولمدير العمل البلديّ في “حزب الله” مهدي مصطفى، قبل كلمة الوزيرة وتسليم الشاحنات. الفاعليّة ليست إذن نشاطًا إداريًّا صرفًا؛ بل منصةً انتخابيّةً كاملة الأركان: تضع الشاحنات في خدمة صورة الثنائيّ الشيعيّ بوصفه “مموِّل” الخدمات، وتُجيِّر حضور الوزيرة باعتبارها “ضمانةً” رسمية.
الخرق القانونيّ
المادة 16 من المرسوم الاشتراعيّ 118/1977 تُخضع الانتخابات البلديّة لأحكام قانون انتخاب مجلس النواب حيث لا تعارُض، ما يجعل الموادّ 59 إلى 78 من قانون 44/2017، ولا سيّما المادة 62 التي تحظّر “التبرّعات والخدمات ذات المنفعة المباشرة للناخبين” أثناء الحملة، ساريةً بحرفيّتها على السباق البلديّ.
والحال أنّ الشاحنات الّتي سيتسلّمها رؤساءُ بلدياتٍ مرشَّحون حكمًا للانتخابات المقبلة تُعدّ “هبةً” تُحسَب ضمن سقف الإنفاق أو تُحظَر إذا مُوِّلت من خارج حساب الحملة، والتمويل هنا قادمٌ من برنامج UNDP ومصرف KfW الألمانيّ عبر مشروع MSLD. كذلك يخرق حضورُ وزيرة البيئة على المنبر، وتحويلُ الوزارة إلى مظلّةٍ سياسيّة، موادَّ الإعلام والموارد العامّة (68–78) في القانون نفسه. أمّا مشاركةُ طليس ومصطفى، اللذَين يشرفان على تشكيل اللوائح الحزبيّة في البقاع، فتنقل الحفل من نطاق خدمةٍ بلديّةٍ إلى دعايةٍ مباشرة للثنائيّ، وهو ما أكّدته تصريحاتُ طليس بأنّ “الانتخابات البلديّة ليست سياسيّة اليوم”، كاشفةً توظيفَ الملفّ الإنمائيّ انتخابيًّا.
من جهتها، توضح الوزيرة تمارا الزين في حديثها إلى “المدن” وردًّا عن استفسارات الأخيرة بما يتعلق بالمشاركة إلّا أنّها “قبلت المشاركة بعد أنّ تأكّدت أنّ رئيس الإتحاد غير مرشّح والمشروع ليس بجديد”. وأضافت: “في كل الأحوال، الموضوع قيد المراجعة نظرًا لتاريخ الانتخابات”.
استغلال موارد الدولة
يتقاطع فعلُ “التبرّع” مع “استغلال موارد الدولة” مضافَين إلى “دعايةٍ انتخابيّةٍ مقنّعةٍ”، ما يرفع المخالفةَ إلى شبهةِ الرشوة الانتخابيّة وفق المادة 329 من قانون العقوبات. يضاف إلى ذلك تورّطُ الشركاء الدوليين؛ فمشروع MSLD يُسوَّق منذ سنواتٍ بوصفه “آليّةً للاستقرار والتنمية المحليّة” في المجتمعات المضيفة، لكن تقاريرَ تقييمٍ مستقلّةً حذّرت من مخاطر “الاستحواذ السياسيّ” على تجهيزات البلديات ذات النفوذ الحزبيّ. أما قبول UNDP (الّتي قد تسحب اسمها) بوضع شعارها على الشاحنات في حفلٍ حزبيٍّ قبيل الاقتراع يتعارض مع مدوّنة السّلوك الأمميّة الّتي تشترط الحياد إزاء الاستحقاقات الوطنيّة، وهي ملزمة باحترام القوانين المرعية الإجراء في البلد، ومن هذا المنطلق كان عليهم عدم السّماح باقحام اسمهم في ما قد يوصف بدعايةٍ انتخابيّة.
وقد أصدرت الـ UNDP بيانًا توضيحيًّا لم تُعرّج فيه صراحةً على الموضوع الذي يشهد تفاعلًا على وسائل التّواصل الاجتماعيّ، بل اكتفت بالقول أنّ “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ملتزم بسياسات المنظمة، ويحافظ على الحياد ويمتنع عن المشاركة في أي أنشطة أو فعاليات على المستوى المحليّ”.
قبل أربعة أشهرٍ فقط وزّع الاتحاد نفسُه ألفي حاوية نفاياتٍ ضمن المرحلة الأخيرة من المشروع مع شكرٍ علنيٍّ لـ UNDP، في حفلٍ حاشدٍ بالوجوه الحزبيّة ذاتِها؛ ويبدو الحفلُ الجديد حلقةً ثانيةً في مسلسلِ استخدام المساعدات الخارجيّة لبناء رأسمالٍ انتخابيّ. فمنذ أكثر من عقد يهيمن الثنائيّ على اتحادات البقاع، فيما تحاول مجموعاتٌ معارضةٌ خرقَ التزكيات الكاسحة، وجاء افتتاح مركزِ دفاعٍ مدنيٍّ سابق في حوش تلّ صفية بحضور المسؤولين الحزبيّين مثالًا صريحًا على توظيف مؤسّسات الخدمات في سياق الولاء السياسيّ. وتسليم الشاحنات اليوم يوجّه رسالةً انتخابيّةً فحواها أنّ “الخدمات تمرّ عبر حلفائنا”.
لكن القانون اللّبنانيَّ واضحٌ: ما يُسمّى “مكرمة انتخابيّة” هو في الواقع رشوةٌ مُجرَّمة. حين تُصرّ وزيرةُ البيئة على قصّ الشريط بمعيّةِ حزبيّ السلطة، وتصفّق الأممُ المتحدة والبنكُ الألمانيُّ للتنمية في الصفوف الأولى، تصبح القضيّة أكبرَ من مخالفةٍ انتخابيّة؛ إنّها درسٌ صارخٌ في كيف يتماهى “المال النظيف” مع “التسويق الحزبيّ” ليغسل أخلاقيّات الاقتراع. والحلّ ليس في إرجاء شاحنات النفايات فحسب، بل في كنسِ الذهنيّة الّتي تعتبر الدولةَ ومؤسّساتها ومشاريعَ المانحين سلعةً يُدفَع ثمنُ الأصوات مسبقًا. وصناديقُ الاقتراع في 18 أيار قد تحمل الاختبار الأوّل: هل يُعاقَب مَن خلط الخدمةَ بالزبائنيّة، أم تبقى شاحناتُ القمامة أبلغَ تعبيرٍ عن واقع انتخاباتٍ تُنتهَك فيها القوانينُ على مرأى الجميع، وتُطوى الصفحةُ بلا محاسبة؟