
أي عبد الناصر تريد؟ الأصلي أم التقليد؟
و لم يمت الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970، هل كان هو الذي سيوقّع اتفاقيات كامب دايفيد مع إسرائيل برعاية واشنطن بدل الرئيس الذي خلفه محمد أنور السادات؟ وهل كان سيقضي اغتيالاً على يد أحد أفراد جماعة الإخوان كما اغتيل السادات في 6 تشرين الأول 1981؟ هل هناك جمال عبد الناصر واحد؟ أم هناك عبد الناصر أصلي وعبد الناصر تقليد؟
ألهب عبد الناصر أحلام معظم الجماهير العربية منذ قفز بثيابه العسكرية من صفوف الجيش إلى قيادة الدولة عام 1952. ذلك الفلاح الأسمر المسمى جمال عبد الناصر حسين خليل سلطان المري، المولود في 15 كانون الثاني 1918 في شارع قنوات بحي باكوس في الإسكندرية، هزّ عرش مصر وهدّد عروشاً عربية كثيرة، ودعم ثورات ونفّذ انقلابات، ونصّب حكاماً وأسقط حكاماً باسم العروبة والقتال ضد إسرائيل، و”أنّ ما أخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة”، وأنّه “من الواجب تحرير الأمة من قوى الاستعمار وأذنابه”. كان قائد محور الممانعة في الصراع مع إسرائيل، الذي يوزّع نياشين الشرف واتهامات الخيانة. ولكنّه على رغم كل هذا المجد الذي حقّقه خلق أعداء كثيرين وإن كان قد حقّق إنجازات، فقد صنع هزائمه أيضاً.
هدم صورة البطل
الصورة التي التصقت بعبد الناصر دائماً كانت صورة المقاتل من أجل حق العرب والفلسطينيين، الذي لا يمكن أن يلقي البندقية قبل التحرير الكامل وإزالة إسرائيل من الوجود. ولكنّ الواقع لم يكن كذلك. فقد كان عبد الناصر مستعدّاً للسلام في واقعية شكلت انقلاباً على ماضيه وتاريخه المعروف عنه، بحيث بدا وكأنّ عبد الناصر الأول ينهزم أمام عبد الناصر الثاني، وأنّ الإرادات تنحني أمام الإمكانات.
انشغل العالم بالحديث الذي دار بين عبد الناصر والعقيد الليبي معمر القذافي، مع أنّه حصل قبل خمسة وخمسين عاماً وكان معروفاً ومتداولاً ولم يُكتشف اليوم، إنّما أُعيد توزيعه. ولكنّ الصدمة كانت في أنّ هذا الحديث هدم صورة عبد الناصر الثائر وداعم الثوار، وأقام محلّها صورة عبد الناصر المسالم الراغب في السلام مع إسرائيل، وفي استرداد الأراضي المصرية المحتلة تطبيقاً لمعادلة “الأرض مقابل السلام”، وليس على قاعدة أن “ما أُخذ بالقوة يستردّ بالقوة”.
كان القذافي صنيعة عبد الناصر. بفضل دعمه، ومستلهماً تجربته نجح القذافي في الانقلاب على حكم الملك الليبي محمد إدريس السنوسي في أول أيلول 1969. ولكن هذا الأمر لم يمنع الملك المخلوع من اللجوء إلى مصر ليحلّ في ضيافة عبد الناصر، والدولة المصرية حتى وفاته في 25 أيار 1983. اللافت في هذا المجال هو أن يفتح عبد الناصر قلبه وعقله أمام القذافي ليحدّثه عن رغبته بالسلام. فعبد الناصر قاد الانقلاب على الملك فاروق عام 1952 في ثورة 23 تموز. وسبب ذلك نكبة 1948 وقيام دولة إسرائيل واتهام النظام الملكي بأنّه قاصر عن القيام بما تفرضه ظروف الحرب، وبأنّه تابع للسلطات البريطانية، وبأنه اشترى صفقة سلاح فاسد كانت السبب في انهزام الجيش المصري أمام “الميليشيات” الإسرائيلية التي شكّلت لاحقاً الجيش الإسرائيلي. عندما نفّذ القذافي انقلابه كان عبد الناصر في أسوأ حالاته. فقبل هزيمة 1967 لم يكن كما بعده.
القمح الأميركي والسلاح السوفياتي
قبل الانقلاب الليبي كان عبد الناصر قد حقّق نجاحات كبيرة. أنهى حكم الملك فاروق ورفع شعار تحرير مصر من الاستعمار البريطاني. وأمّم قناة السويس عام 1956 وانهار أمام الهجوم الإسرائيلي الفرنسي البريطاني وأنقذه التدخل الأميركي. بعد انقلاب 1952 ووصوله إلى الحكم عام 1954 منقلباً على اللواء محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية، لم يكن توجّه ناصر واضحاً. كان لا يزال يحظى بالدعم الأميركي. عدم حصوله على التمويل الكافي لبناء السدّ العالي جعله يتّجه نحو الاتحاد السوفياتي. ولكنّه كان بحاجة إلى السلاح وإلى القمح والخبز. لم يكن باستطاعة موسكو إلا مدّه بالسلاح، أما القمح فبقي على عاتق واشنطن. ويومها سرت نكات كثيرة ضد عبد الناصر تقول: “إن القمح أميركي ولكنّ الخبز فمصري”.
لم ينجح الدعم السوفياتي في منع عبد الناصر من السقوط العسكري والسياسي. وعلى رغم ذلك فقد تولى ملاحقة الشيوعيين واعتقالهم وزجّهم في السجون. بين 1956 و1967 كان عبد الناصر قد حقّق إنجازات كثيرة: دعم الثورة في الجزائر ولكنّه لم يستطع أن يمنع الصراع بين الثوار على وراثة السلطة. حقّق أول وحدة عربية بين دولتي مصر وسوريا في 22 شباط 1958 ولكنّه لم يستطع منع سقوطها بانقلاب عسكري في سوريا في 28 أيلول 1961. تبنى الانقلاب على الملك فيصل الثاني في العراق في 14 تموز 1958، ولكنه عاد واختلف مع قائد الانقلاب العقيد عبد الكريم قاسم المدعوم من موسكو. دعم المعارضة في لبنان ضد الرئيس كميل شمعون وأشعل أحداث 1958، ولكن الأزمة انتهت بتسوية مع الولايات المتحدة الأميركية أوصلت اللواء فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية. اتهم جماعة “الإخوان المسلمين” بمحاولة اغتياله عام 1954 ثم عام 1965، فحلّ التنظيم وأعدم عدداً من قادته وأبرزهم سيِّد قُطب. كان وراء انقلاب العقيد عبدالله السلال في اليمن في 25 أيلول 1962، ولكنّه انتهى إلى زجّ الجيش المصري في حروب اليمن دعماً له. حاول قلب نظام الحكم في المملكة العربية السعودية وانتهى بالتنازل أمام الملك فيصل وبخسارة اليمن.
زمن الهزائم والدروس والعبر
شعر عبد الناصر بامتلاك قوة قادرة على تغيير المنطقة وهزيمة إسرائيل. لذلك طلب خروج القوات الدولية من مضائق تيران على البحر الأحمر. ولكنّه انهزم في حزيران 1967 أمام الجيش الإسرائيلي وخسر صحراء سيناء وقطاع غزة وعزّته وكرامته وكلّ شعاراته. لم تنفعه استقالة من الرئاسة كانت على سبيل المناورة، ولا قوله أنّه انتظرهم من الشرق فأتوا من الغرب، ولا أنقذه انتحار قائد جيشه اللواء عبد الحكيم عامر، وقد حاول تحميله مسؤولية الهزيمة. كل ذلك شكّل تحولاً في استراتيجية ناصر وأعاده إلى التعاطي بواقعية مع طبيعة الصراع واتجاهه نحو التسوية، وفق ما قاله للقذافي في حزيران 1970: “إذا كان هناك فرصة لإزالة العدوان في مناطق 67، فلماذا نتركها؟ أريد استرجاع الأرض التي فقدناها سنة 67، وبعدها نعمل على استرجاع أراضي 48، لكنهم يقولون: نسترجع الإثنين معاً، أو لا نسترجعهما مطلقاً… لأن هذا النهج سيؤدي إلى إعطاء باقي فلسطين لليهود”.
عبد الناصر في المحادثة أعلن حياد بلاده بكل وضوح وأنه سيركّز على استعادة سيناء… “إذا كان هناك أحد يريد أن يكافح فليُكافح، وإذا كان هناك أحد يريد أن يناضل فليُناضل، تفضّلوا أنتم والعراق وسوريا واليمن والجزائر. نحن ناس استسلاميون. الذين يريدون القتال والتحرير، تفضّلوا اجتمعوا، ونحن سوف نقاطع الاجتماعات. اتركونا. حلّوا عنا… تريد أن تحرر تل أبيب. كيف ستفعل ذلك وهم متفوقون علينا براً وجواً؟ أنا لا أقول هذا الكلام لأنني انهزامي، لكن إذا كنا نريد أن نحقق هدفاً، لا بدّ أن نكون واقعيين”.
بين ناصر ونصرالله
كلام عبد الناصر شكل انقلاباً في مفهوم قوى الممانعة الذي التفّ حوله، وورثته منه إيران وأذرعها في المنطقة، ولا سيّما “حزب الله” في لبنان. فأنصار ناصر كما محور إيران تبنّوا شعار “أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وأنّه “يجب تحرير فلسطين شبراً شبراً ولو كان فوق كل شبر شهيد”. وأن “فلسطين أمانة من النهر إلى البحر”. ولكن كما انهزم منطق عبد الناصر عام 1967 انهزم منطق الممانعة في حرب 2024.
الممانعون العرب آنذاك، في أنظمة العراق وسوريا واليمن الجنوبي، والفصائل الفلسطينية الراديكالية والجزائر وليبيا، خوّنوا عبد الناصر لأنه قبِل التوجه لفتح مسارات سلمية تفاوضية لاستعادة سيناء. ولكن كل هذه الأنظمة انتهت اليوم ومعها يسقط محور الممانعة من إيران إلى اليمن و”حزب الله” ونظام الأسد وحركة “حماس”. كل ذلك يعيد الاعتبار إلى ما قاله عبد الناصر للقذافي الذي انتهى أيضاً مقتولاً ومسحولاً في أحد شوارع مدينة سرت في 20 تشرين الأول 2011.
مثل عبد الناصر هدّد أمين عام “حزب الله” السابق السيد حسن نصرالله بهزم إسرائيل وتدميرها، وتوقّع فرار اليهود من فلسطين عبر البحر تحت وقع ضربات صواريخه التي قال إنّها قادرة على إصابة أيّ هدف في الدولة العبرية. ولكن كما انهزم عبد الناصر في حزيران 1967 أتت هزيمة “حزب الله” في لبنان بعد اغتيال نصرالله في 27 أيلول 2024، واضطراره مرغماً قبول اتفاق وقف النار الذي فرض عليه التخلّي عن سلاحه، بينما يصول الجيش الإسرائيلي في لبنان وسوريا، ويجول في اليمن وإيران، ويعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنّه يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط ويرفع شعاره “أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.