
الضاحية بين الرصاص والصواريخ وهتافات تنكر الألم
عقب سلسلة غارات جوية إسرائيلية طالت الضاحية الجنوبية لبيروت في الأيام الماضية، تعيش المنطقة لحظات من التوتر والذعر، في مشهد يمتزج فيه الألم بصخب الحماسة المفرطة. مع كل انفجار، تعلو مكبرات الصوت مصحوبة بهتافات تتناغم مع موجة من التحدي والتصعيد، فيما يعمد بعض الشبان إلى إطلاق الرصاص في الهواء، في تصرف يعكس هوساً غير محسوب وسط أجواء مشحونة. لم تعد الصورة تقتصر على الدفاع عن النفس، بل باتت تغذّي هالة من الغرور الجماعي والانفصال عن الواقع في قلب محنة مدمّرة.
لكن الهجوم الإسرائيلي على الضاحية، ليس الحدث الوحيد في هذا المشهد المركّب؛ فالصورة أوسع وأعمق من مجرد غارات. في قلب الخطر، تنقلب المعايير: تُغلّف المأساة بهتافات حماسية، وتُروَّج اللحظة كأنها مشهد بطولي، لا كارثة إنسانية.
عدسات تلاحق القصف وعيون تغض الطرف عن الخطر
قال أحد سكان الضاحية الجنوبية لـ “نداء الوطن”: “بينما نكافح تحت وطأة العدوان الإسرائيلي على أحيائنا، نجد أنفسنا في وضع محيّر، عالقين في ازدواجية صارخة بين الألم والمظاهر. الناس لا يهربون من الخطر، بل يلاحقونه بكاميراتهم. كأن الدماء لم تعد كافية لقياس عمق الجرح، بل أصبحت جزءاً من مادة استهلاكية تُعرض على الشاشات ومواقع التواصل. ومع تساقط الصواريخ على المباني، تبرز كاميرات الهواتف لتوثيق ‘العدوان’ من دون أي إجراءات حماية، وكأن الخطر على حياتنا لم يعد يعني أحداً. إنه مشهد يحوّل الألم إلى مادة إعلامية تُغلَّف بهتافات احتفالية تخدّر الوعي في الأجواء”.
بين الرعب والتهليل
وفي شهادة أخرى، قال أحد السكان: “الخطر في الضاحية الجنوبية لا يقتصر على القصف الإسرائيلي، بل يمتد إلى دوي الرصاص الذي يملأ الأجواء، سواء ذلك الذي يُطلق عند أي تهديد، أو ذاك الناتج عن الرصاص الطائش. مشهد يُلخّص حجم الرعب الذي يعيشه المدنيون، حيث يجدون أنفسهم بين التهليل والدمار، بين فرحة زائفة وحقيقة قاسية، فيما يتعالى في الخلفية صراخ الأطفال المرتجفين خوفاً داخل المنازل” .
وتابع: “هذا التناقض الصارخ بين الخسائر المادية والبشرية من جهة، وردود الفعل المفرطة والمنفصلة تماماً عن الواقع من جهة أخرى، يطرح أسئلة عميقة حول طبيعة ما يجري. إنه يعكس اختلالًا في الوعي المجتمعي، ويكشف عن فقدان للثقة وغياب للتوازن في مقاربة الأزمات، ناهيك عن الأثر النفسي والاجتماعي الذي يرزح تحته المواطن في بيئة تتأرجح بين الإنكار والمعاناة”.
قراءة نفسية في سلوك العقل الجماعي تحت القصف
صرّحت الاختصاصية النفسية والمرشدة الاجتماعية ميرنا صفاوي لـ “نداء الوطن”: في مواجهة التهديدات المستمرة، لاحظتُ ظاهرة لافتة في سلوك بعض اللبنانيين، خصوصاً عند تعرّض موقعٍ ما للقصف الإسرائيلي. بدلاً من الابتعاد عن الخطر، يندفع البعض نحوه، وكأن وجودهم في قلب الحدث يمنحهم إحساساً بالتوازن أو السيطرة وسط الفوضى. هذه ليست مجرد ردة فعل عفوية، بل انعكاس لتفاعلات نفسية عميقة ومتداخلة”.
وأضافت: “التطبيع مع الخطر هو أحد العوامل التي قد تفسر هذا السلوك. حين يصبح التهديد جزءاً من الحياة اليومية، يفقد الخوف تأثيره التقليدي، ويحل محله نوع من التكيّف، يجعل المواجهة المباشرة تبدو وكأنها تصرّف طبيعي. ففي لحظة القصف، لا يعود التركيز منصبّاً على الهروب، بل على المشاهدة والتأمل، وربما البحث عن إجابات وسط الركام”.
وتابعت: “هناك أيضاً عامل البحث عن الإثارة، وهو بُعد نفسي آخر يمكن أن يكون حاضراً. فالتعرّض المزمن للتهديدات يولّد توتراً عصبياً، يتحوّل مع الوقت إلى حاجة غير واعية لمزيد من التحفيز. وهنا، يصبح الاقتراب من الخطر وسيلة لتفريغ القلق أو حتى لاستعادة الإحساس بالحياة في ظروف قاسية”.
ورأت صفاوي أن “العامل الأكثر تأثيراً في هذا السلوك، من وجهة نظري، هو التضامن الجماعي والشعور بالهوية. ففي المجتمعات التي تمرّ بأزمات متكرّرة، يصبح التواجد الجماعي في موقع الحدث وسيلة لتأكيد الوجود، والإحساس بالقوة، والإثبات أن الفرد ليس وحيداً في مواجهة الخطر. المشاركة، حتى حين تكون محفوفة بالمخاطر، تمنح شعوراً بالانتماء، وتُكرّس التجربة كقضية جماعية لا فردية”.
وأشارت إلى أنه “لا يمكن فصل هذه الظاهرة عن تأثير الصدمات المتكررة، التي تعيد تشكيل استجابة الدماغ للخوف. في مثل هذه السياقات، يصبح ما كان يُعد سلوكاً غير منطقي في الظروف العادية، سلوكاً متوقعاً بل ومبرراً في ظل الأزمات. التعامل مع هذا الواقع يتطلب فهماً أعمق للآليات النفسية التي تطورها المجتمعات في بيئات مضطربة.
واختتمت حديثها بالقول: “قد لا يستطيع البعض استيعاب أسباب هذا السلوك، لكنه، برأيي، جزء من قصة أكبر تُكتب بحبر التجربة والواقع المعاش”.