غياب التوافق: وحدة اللبنانيين في خطر والمسيحيون خارج المعادلة

غياب التوافق: وحدة اللبنانيين في خطر والمسيحيون خارج المعادلة

الكاتب: ندى أندراوس | المصدر: المدن
18 ايار 2025
لم يكن المسيحيون وبالتحديد الموارنة مجرد معادلة سكانية عابرة في لبنان، إذ ارتبط وجودهم بإنشاء الكيان اللبناني نفسه وولادة الدولة عام 1920.

تأسس لبنان الكبير بتلاقي إرادة داخلية وقرار خارجي جمع مناطق جبل لبنان ذات الأغلبية المسيحية والدرزية مع مناطق أخرى ذات تنوع طائفي في البقاع والجنوب والشمال وبيروت، لتتوسع المتصرفية وتصبح ما أطلق عليه الجنرال غورو اسم دولة لبنان الكبير، التي أصبحت جمهورية مستقلة عام 1943، مستندة إلى ميثاق توافق عليه المسلمون والمسيحيون تحت عنوان لا للشرق ولا للغرب.
مع اندلاع الحرب في منتصف سبعينيات القرن الماضي، بدأت مرحلة التراجع الديموغرافي للوجود المسيحي المؤسس، ومعها التراجع على مستوى السلطة والتمثيل السياسي. بعد إتفاق الطائف عام 1989، انتقلت صلاحيات واسعة من رئاسة الجمهورية، التي يشغلها مسيحي ماروني، إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، مما حدّ من الحضور السياسي المسيحي في قيادة الدولة، وفي المؤسسات والادارات العامة.

وجود رمزي خارج جبل لبنان
تركت الحروب أثراً سلبية على الوجود المسيحي في المدن خارج حدود جبل لبنان التاريخي، كطرابلس وصيدا وبعلبك، فأصبح وجودهم رمزياً مع الوقت. ففي مدينة بعلبك كما في طرابلس، يوجد مسيحيون على لوائح القيد، ولكن لا وجود لهم في حياة المدينتين أو قرارهما.

الأمر نفسه ينسحب على صيدا وصور وحتى بيروت، التي انقسمت بفعل خطوط التماس خلال الحرب، وأصبحت مناطقها ذات الأغلبية المسيحية، كالأشرفية، امتداداً لجبل لبنان، بدلاً من أن تكون جزءاً من نسيج العاصمة المتنوع.
هذا التراجع أثار تساؤلات حول جدوى اتفاق الطائف والطريقة التي مورس فيها النظام السياسي والاقتصادي، بما أفقد لبنان المساحة المشتركة بين مواطنيه وتضاءلت المصالح الاقتصادية والاجتماعية المشتركة التي كانت تشكل أساساً للعيش المشترك.

مقعد من دون ناخبين
شهدت طرابلس حضوراً مسيحياً نشطاً في منتصف القرن العشرين، مع تمديد أنابيب النفط من العراق (IPC)، وانتعاش الحركة الاقتصادية والثقافية، وانتشار المدارس الخاصة ذات الطابع المسيحي، مما أوجد شبكة تنمية وأمان وانتماء، جعلت المسيحيين يشعرون بأنهم جزء من المجتمع الطرابلسي، بغض النظر عن طائفتهم.

لكن مع الحرب، تغير الوضع وخرج المسيحيون تدريجًا من طرابلس ولم ينفع في الحد من هجرتهم ابتكار مقعد نيابي للموارنة بعد الطائف بحجة الحفاظ على الشراكة الوطنية . أصبح المقعد من دون ناخبين موارنة، والمسلمون هم من يقررون مصيره. الأمر نفسه حصل في بيروت وصيدا، حيث كان الرئيس رفيق الحريري وبتحالفاته مع زعماء الشيعة والدروز، يفرض اللوائح الانتخابية، بما غي ذلك المقاعد المخصصة للمسيحيين.

غياب الـتمثيل الحقيقي
تجسّد هذا التراجع المسيحي بشكل واضح في الانتخابات البلدية، التي لا تخضع لقيد طائفي. ففي المدن والبلدات المختلطة، كطرابلس وصيدا وبعض مناطق الجنوب والبقاع، بات المسيحيون عاجزين عن تحقيق تمثيل فعلي. حتى إن سكان بيروت الشرقية انفصلوا نفسيًا واجتماعيًا عن العاصمة، وارتبطوا أكثر بجبل لبنان، وتحديدًا بقضائي بعبدا والمتن الشمالي.

هذه الظاهرة تعكس سؤالًا أكبر: هل يمكن التوفيق بين التمثيل الحقيقي للطوائف وضمان وجودها، وبين بناء دولة عصرية مدنية قائمة على المواطنة وحقوق المواطن؟ وهل يمكن أن يستمر “لبنان الكبير”، بمعناه التأسيسي، في ظل هذا الانكفاء المسيحي؟

المحلّل أنطوان قسطنطين يقول: “إذا لم ننتج مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا يبني شبكة مصالح مشتركة بين اللبنانيين، تجعل من المبرّر والمنطقي أن يختلطوا ببعضهم البعض بفعل هذه المصالح، فلن تنشأ علاقات اجتماعية وسياسية تُثبّت وحدة الكيان وتحافظ على التنوع. الحفاظ على التنوع، وعلى وحدة الكيان، وبناء دولة حديثة، هو مشروع قابل للحياة، لكنه يحتاج إلى جهود. وهو مشروع يبدو معقّدًا في حال غابت النوايا والإرادة”.

ويضيف قسطنطين: “المطلوب وضع النظام اللبناني بأكمله على مشرحة النقاش بين اللبنانيين، لكي يستفيدوا من المتغيرات الكبرى في الإقليم، ويعدّلوا سلوكهم ونظامهم السياسي والاقتصادي بما يضمن وجودهم كدولة مستقلة. وإلّا، فإن دولتهم ستفقد مبرّر وجودها، ويصبح الاستغناء عنها سهلًا، أو تُجيَّر لمن يستطيع التحكّم بها وتخفيف وجع الرأس اللبناني عن الدول الكبرى”.

في بيروت، يُعدّ التمثيل المسيحي في المجلس البلدي مسألة حسّاسة. ففي انتخابات عام 2016، تمكّن المسيحيون من الحصول على 12 مقعدًا من أصل 24، بفضل لائحة توافقية رعاها الرئيس سعد الحريري، وضمت قوى مسيحية بارزة مثل القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر، والكتائب، والطاشناق.
لكن في الانتخابات الحالية، ومع غياب الحريري عن الساحة السياسية، يواجه المسيحيون صعوبة في الحفاظ على هذا التمثيل، خصوصًا مع تعدّد اللوائح السنية وتنافسها، وتراجع التنسيق بين القوى المسيحية.

تسلّط هذه التحديات الضوء على أهمية تكريس المقاعد البلدية قانونًا للمسيحيين، إذ تبرز الحاجة إلى تمثيل مضمون يراعي التنوّع السياسي والطائفي.

إنّ التراجع في التمثيل المسيحي في الانتخابات البلدية يعكس تحديات أعمق تتعلّق بطبيعة النظام السياسي اللبناني، ويستدعي إعادة نظر في القوانين الانتخابية بما يضمن تمثيلًا عادلًا لجميع الطوائف، والحفاظ على التوازن الذي قام عليه لبنان منذ تأسيسه.
وإلّا، فإن لبنان الموحّد سيفقد مبرّر وجوده، ويتحوّل إلى مناطق ذات صفاء طائفي، مفتوحة على النزاعات بدلًا من المصالح ووحدة الدولة.