«الستاتيكو» الحالي مع لبنان لا يزعج إسرائيل

«الستاتيكو» الحالي مع لبنان لا يزعج إسرائيل

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
31 ايار 2025

بعد مرور 6 أشهر على توقيعه، يتأكّد أنّ اتفاق وقف النار كان كارثياً على لبنان، سواء بنصه أو بآلية تنفيذه. فهو منح إسرائيل امتياز التطبيق على طريقتها ووفق مصالحها، حتى إن أحداً في العالم لا يتنبّه اليوم إلى ما تقوم به، سواء في الجنوب أو في أي منطقة أخرى، ولا أحد يطلق حتى عبارة استنكار لعمليات القتل التي تنفّذها يومياً، فيما هي نفسها اعترفت بتصفية نحو 200 عنصر من «حزب الله» منذ 27 تشرين الثاني الفائت، ومعهم قتلت أعداداً أخرى من المدنيين.

يتخبّط الوضع الحدودي مع إسرائيل في دائرة مقفلة، ولا مجال لكسرها في المدى المنظور. فمن جهة، تحمّل إسرائيل لبنان الرسمي مسؤولية حصرية عن عدم استكمال تنفيذ بنود وقف النار، بنزع سلاح «حزب الله» من المناطق اللبنانية كافة، وتهدّد بالردّ على ذلك بتثبيت «الستاتيكو» الحالي، أي السيطرة على مناطق حدودية عدة وتوجيه ضربات متواصلة لكل هدف ترى فيه تهديداً لها. ومن الجهة المقابلة، يرفض «الحزب» أي بحث في مسألة التخلّي عن سلاحه، ما لم تنسحب إسرائيل من لبنان بالكامل وتوقف عملياتها، وما لم تقم الدولة بواجبها في إعادة إعمار القرى المدمّرة وإرجاع أهلها إليها.

إذاً، هناك تعجيز واضح في هذا الملف. فكل من الطرفين صاحبي القرار ليس مستعداً لتقديم أي تنازل أو الدخول في تسوية. والشرطان المتقابلان يجعلان الأزمة عصية على المعالجة، ما يعني أنّ هناك عواقب أشدّ تنتظر لبنان.

فإزاء الضغط الذي تتعرّض له من جانب الولايات المتحدة للقبول بتسويات، خصوصاً في ملفي إيران وغزة، قد تجد إسرائيل أنّ الخيار الأفضل لها في لبنان هو تثبيت الوضع الذي تتحكّم به حالياً. وواقعياً، هي لن ترى مشكلة في رفض «حزب الله» التزام قرار تسليم السلاح في شمال الليطاني، ما دامت قد أمّنت نزعه من جنوب النهر في شكل كامل، بضمان الجيش اللبناني و«اليونيفيل» وبدعم واشنطن القوي والمباشر. ولأنّها تستطيع في أي لحظة تدمير أي هدف شمال الليطاني، كما تفعل اليوم، وتدرك أنّ «الحزب» لن يجرؤ أبداً على الردّ بصواريخ من البقاع وسائر المناطق الواقعة شمالاً، لأنّ عواقب أي مغامرة من هذا النوع ستكون وخيمة جداً.

في عبارة أخرى، ستتعايش إسرائيل مع الوضع الحالي مع لبنان، وتستفيد من الضوء الأخضر الأميركي لتوجّه ضربات مباشرة إلى أهداف تابعة لـ«الحزب»، في أي لحظة، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، بما في ذلك بيروت، وسط صمت عربي ودولي مطبق. وهي غالباً تستخدم لهذه الغاية طائرات مسيّرة صغيرة جداً، أي أنّها لا تتكلّف على عملياتها إلّا القليل. ولذلك، هي تتحمّل استمرار هذه العمليات طويلاً. وارتياحها إلى الواقع السائد مع لبنان، أو التأقلم معه، ربما يكمن وراء إعادة القيادة العسكرية الإسرائيلية تسليم الحدود الشمالية إلى «فرقة الجليل» التي كانت تتولّى هذه المهمّة قبل اندلاع الحرب مع لبنان في 8 تشرين الأول 2023. فهذا الأمر يعني عملياً أنّ إسرائيل باتت تتصرف على أساس أنّها باقية في المناطق الحدودية من دون اعتراض أحد، حتى إشعار آخر، أي إلى أن تفرز التسويات الإقليمية والدولية معطيات جديدة.

وهذا الأمر يضع الحكومة اللبنانية أمام تحدّ محرج جداً: فلا هي تستطيع إجبار إسرائيل على الانسحاب ووقف العمليات، ولا هي تستطيع إقناع «حزب الله» بتسليم السلاح. وبذلك، يبقى خيار لبنان الرسمي، كما هو اليوم، انتظار «شيء ما يسقط من السماء» ومعه الحل السحري.

لكن «الحزب» الذي يسكت اليوم، على مضض، عن «الستاتيكو» المكلف جداً والمفروض عليه، هل سيستمر في سكوته؟ وما هو سقف الاستفزاز الإسرائيلي الذي يستطيع تحمّله؟ وهل سينتظر- كما إسرائيل- ما يمكن أن يحصل من تسويات إقليمية ودولية كالاتفاق المحتمل بين إيران والولايات المتحدة ليتخذ قراراً جديداً، أم إنّ الضربات الإسرائيلية اليومية، والموجعة جداً، ستدفعه إلى التصرف في شكل عاجل؟

إذا قرّر «الحزب» خلط الأوراق مجدداً، فليس أمامه سوى خيار واحد: تفجير الحرب، وأياً كانت النتائج، ما دامت الخسائر في الاستنزاف الحالي لم تعد محمولة. وقد يبدو للبعض أنّ «الحزب» سيجرؤ على المغامرة، لكن هذا الاحتمال لم يعد واقعياً، لأنّ «الحزب» يعرف ما ينتظره من مخاطر في هذه الحال. فلو كان قادراً على القتال لما أوقفه أساساً ووافق على اتفاق لوقف النار يلبّي تماماً شروط إسرائيل، ولما سكت طوال 6 أشهر مضت على الضربات التي يتلقاها يومياً.

«الكلمة السرّ» تكمن في موقف الدولة اللبنانية، أي رئيس الجمهورية وحكومة الرئيس نواف سلام. فحتى الآن، الدولة «تبعد عن الشر وتغني له»، وعلى الأرجح هي ستبقى كذلك طويلاً. لكنها في هذه الحال لن تستطيع إرضاء أحد، لا «الحزب» ولا إسرائيل ولا الأميركيين. فالجميع يريدها أن تفعل المزيد، فيما هي عاجزة تماماً، كما كانت دائماً. وهذا العجز سيقود لبنان إلى المجهول.