
جلسة بـ 300 دولار وشفاء غير مضمون: من يوقف كذبة الطاقة؟ الملايين تُدفع للوهم… والعقول تُدار بالفلك
في زمن القهر والانهيار، لم تعد الخرافة تهمس في زوايا مظلمة… بل صارت تصرخ من على شاشات الهواتف، تتزين بالألوان وتتكلم بلغة “الوعي”، وتعد بالخلاص مقابل تحويل مصرفي أو كريديت أونلاين. بين جلسات طاقة مزعومة، وأبراج يومية مغلّفة بالوهم، تنهض “إمبراطورية وهم” من رماد الأزمات، تدر الملايين وتخدّر العقول.
انفجار سوق “الروح”: أرقام تثير الذهول
في العالم العربي، يتجاوز حجم الإنفاق السنوي على التنجيم و”العلاجات الروحية” 5 مليارات دولار، بحسب تقارير إعلامية وإحصاءات غير رسمية. في لبنان، حيث تتكاثر الأزمات، تكاثرت معها هذه الظواهر: جلسات طاقة تُباع بين 100 و300 دولار، وأبراج “شخصية” تُقرأ مقابل اشتراك شهري، وورشات شفاء بالحجر واللون والصوت… كلها تسوَّق على أنها علوم بديلة، وهي في الواقع سوق فوضوية مربحة.
جمعيات معنية بالصحة النفسية في لبنان تؤكد تضاعف الإقبال على “البدائل الروحية” بعد 2019، خصوصاً من فئات عمرية تتراوح بين 20 و45 سنة، معظمها من نساء يعانين من قلق، اكتئاب، أو فقدان للثقة بالطب والمؤسسات.
من اليأس إلى التبعية
في حديث خاص لـ “نداء الوطن”، تقول الاختصاصية النفسية والاجتماعية د. رنا سلوان، إن “التنجيم والطاقة ليسا مجرد فضول عابر، بل تحوّلا إلى ملاذ نفسي جماعي، خصوصاً في المجتمعات التي تتآكل فيها المؤسسات، وتنهار فيها أنظمة الأمان الاجتماعي. الناس لا يجدون إجابات في الدولة أو العائلة أو الدين، فيبحثون عنها في الماورائيات”.
وتضيف: “نلاحظ هذا الاتجاه خصوصاً عند الفئات المتوسطة والمتعلمة، التي تتجه نحو ما يبدو أكثر “عقلانية” من الشعوذة التقليدية، مثل جلسات الريكي أو شفاء الشاكرات أو قراءة الهالة، وهي ممارسات تُقدَّم في قوالب حداثية لكنها تفتقر إلى أي أساس علمي مثبت”.
وتتابع: “ما يفاقم الأزمة أن هذه الممارسات تخلق شكلاً من التبعية النفسية. بعض الأشخاص لا يتخذون قراراً بسيطاً من دون استشارة منجم أو معالِج بالطاقة، ما يضعف قدراتهم على التفكير النقدي، ويجعلهم فريسة سهلة للاستغلال العاطفي والمالي”.
وتختم بالقول: “الحل ليس بالسخرية من هؤلاء الأشخاص، بل بفهم أسباب لجوئهم لهذا النوع من الوهم، وتقديم بدائل نفسية واجتماعية حقيقية. في النهاية، من يلجأ للطاقة والتنجيم هو إنسان موجوع… يبحث عن ضوء، ولو في العتمة”.
نجوم الفلك: أرباح بلا رقابة
على “إنستغرام” و”تيك توك”، يلمع عدد من “المعالجين” و”خبراء الطاقة” و”مفسري الأبراج” الذين يقدمون جلساتهم مقابل مئات الدولارات، ويجمعون آلاف الدولارات شهرياً من البثوث المباشرة، وبيع الأحجار، وحتى “كورسات” تحويل الطاقات السلبية إلى إيجابية.
بعض هؤلاء لا يحملون أي شهادة علمية، ولا يخضعون لأي رقابة. بعضهم يستغل ضعف الناس فيسحبهم من حافة القلق إلى هاوية الوهم… بأناقة وموسيقى مريحة.
أين القانون؟ من يحمي الناس؟
في لبنان، لا يوجد أي إطار قانوني واضح ينظّم أو يراقب نشاط “المعالِجين الروحيين” أو “خبراء الطاقة”، كما لا تخضع ممارسات التنجيم وبيع الأحجار وما شابه لأي جهة رقابية رسمية. بعض هؤلاء يمارسون أنشطتهم تحت ستار التدريب أو “الاستشارات”، ما يُفلتهم من أي ملاحقة قانونية حتى عندما يثبت الاستغلال أو التلاعب.
المفارقة أن وزارة الصحة لا تعتبرهم جزءاً من الجسم الطبي، ووزارة الاقتصاد لا تراقبهم كجهات تجارية، ووزارة الإعلام لا تُخضعهم لأي ضوابط رغم ظهورهم الإعلامي والتجاري المستمر. وهكذا، يتحرك هؤلاء في فراغ قانوني تام، مستفيدين من هشاشة الرقابة الرقمية، وفوضى المنصات، وغضّ النظر السياسي.
وفي حالات نادرة، عندما يُكشف عن عمليات احتيال فاضحة، غالباً ما تنتهي الأمور بتسويات ودية، أو بخسائر للضحية دون محاسبة حقيقية للمرتكب، بحجّة “الرضى المتبادل”، وكأن الأذى النفسي والمالي لا يكفي لإثبات الجريمة.
القانون صامت… والنتيجة؟ آلاف الضحايا يدفعون من صحتهم النفسية ومدّخراتهم، ولا أحد يطرق باب المنجم أو “المعالج” ليسأله: من سمح لك أن تتاجر بالأمل؟
حين يصبح اليأس سلعة… تُباع بثمن باهظ
الطاقة، التنجيم، “الرسائل الكونية”، ليست مجرد موضة. إنها مؤشر على مجتمع موجوع، ضائع بين الانهيارات، يبحث عن عزاء ولو كان وهماً. فمتى نعيد الثقة بالعقل والعلم؟ ومتى تتحرك المؤسسات قبل أن يصبح الأمل نفسه سلعة، لا يملكها إلا من يدفع؟