
ما هي أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية؟
مكامن القوة
وتقوم فلسفة الدفاع الجوي الإسرائيلي على توزيع المخاطر وتعدد أدوات الاعتراض، ما يمنح المنظومة قدرة مرنة على التصدي لطيف واسع من التهديدات، وعلى مستوى الأداء الميداني، حيث أظهرت القبة الحديدية فعالية عالية في اعتراض القذائف قصيرة المدى، وبلغت في بعض التقديرات 90%، رغم تذبذب هذه النسبة في حالات الإغراق.
أما مقلاع داوود، فقد بُني لمواجهة تهديدات متوسطة إلى بعيدة المدى، مثل صواريخ “فاتح-110” و”زلزال”، وتم اختباره بنجاح ضد أهداف في العمق السوري، فيما يُعد آرو-3 الذراع العليا للمنظومة، المخصص لاعتراض الصواريخ الباليستية خارج الغلاف الجوي.
وتتكامل هذه الأنظمة عبر شبكة قيادة وتحكم متقدمة (C4I)، تسمح باتخاذ القرار شبه الفوري في عمليات الاعتراض، مدعومة ببيانات من الأقمار الصناعية، وطائرات الإنذار المبكر، وأنظمة الرادار الأرضية المثبتة على طول الحدود.
ويشكل هذا التكامل رأس المال العملياتي الحقيقي للمنظومة، إذ يسمح بالتعامل مع موجات تهديد متزامنة، واستبعاد الأهداف غير الحرجة، لتوفير الذخائر الموجّهة عالية الكلفة.
مكامن الضعف
لكن هذه المنظومة، على الرغم من تماسكها الظاهري، تُخفي في طياتها هشاشة استراتيجية متراكمة، تتعلق بقابلية الاستنزاف السريع، إذ تعتمد الأنظمة الثلاثة على صواريخ اعتراض باهظة الكلفة، مما يجعلها عرضة للإنهاك المالي والتقني في حال التعرض لهجوم إغراقي يمتد لأيام، بالإضافة إلى اعتمادها الهيكلي على الولايات المتحدة سواء في الصيانة، أو التوريد، أو حتى في برمجيات التشغيل، وهو ما يعني أن أي خلل في العلاقات السياسية أو العسكرية مع واشنطن قد يُترجم مباشرة إلى قصور في الجهوزية.
كما يشكل غياب الاكتفاء الذاتي في التقنيات الحساسة لا سيما في مجالات الموجات الرادارية الموجهة، وأنظمة المعالجة الذكية للتهديدات نقطة ضعف لا يستهان بها، حيث ما تزال الشركات الأميركية تحتفظ بتفوق تقني حاسم في هذا المجال.
وتواجه المنظومة صعوبة في التوسع الجغرافي المتوازن، خاصة في مناطق الأطراف مثل النقب أو مرتفعات الجولان، حيث تتطلب الظروف التضاريسية ونمط التهديدات حلولاً غير نمطية لم تُستكمل بعد، إلى جانب العجز النسبي أمام الطائرات المسيّرة الانتحارية منخفضة البصمة الرادارية، والتي تشكل جزءاً رئيسياً من عقيدة الحرب غير المتكافئة لدى إيران وحلفائها.
وفي ضوء هذه المعطيات، يتضح أن فعالية المظلة الجوية الإسرائيلية تعتمد بقدر كبير على توفر دعم أميركي مباشر ومستدام، ليس فقط تقنياً، بل تشغيلياً واستراتيجياً، ولهذا، فإن أي سيناريو تتقلص فيه المظلة الأميركية، أو تتعقد فيه جبهات المواجهة، سيفرض على تل أبيب خيارات أكثر جذرية في التموضع، والتسليح، وربما حتى في العقيدة الدفاعية نفسها.
من الدعم إلى الإشراف
ولم يعد الدور الأميركي في دعم منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية مقتصراً على الجانب التقني أو التمويلي، بل بات يتحرك تدريجياً نحو مستوى من الإشراف العملياتي شبه المباشر، خاصة مع تصاعد احتمال المواجهة الإقليمية المفتوحة مع إيران أو أحد وكلائها.
فمنذ عقود، شكل التعاون الثنائي بين وزارة الدفاع الإسرائيلية ووكالة الدفاع الصاروخي الأميركية (MDA)، حجر الأساس لتطوير أنظمة “آرو” و”مقلاع داوود”، بالتنسيق مع شركات مثل رايثيون وبوينغ، لكن الطابع الهيكلي لهذا التعاون ازداد وضوحاً في السنوات الأخيرة، حيث نُشرت بطاريات ثاد وباتريوت أميركية داخل إسرائيل خلال حالات تصعيد، ليس فقط للحماية، بل كجزء من محاكاة عملياتية لتوزيع المهام الدفاعية، وأُجريت تدريبات جوية ومناورات اعتراض صاروخي مشتركة بمشاركة قيادات CENTCOM وEUCOM، تتضمن تبادل بيانات حيّة من الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار.
وأُدمجت مراكز القيادة والتحكم الإسرائيلية ضمن شبكة إنذار مبكر أميركية واسعة، تمتد من شرق المتوسط إلى المحيط الهندي.
ويُفسّر هذا التحول ضمن ما يُعرف اليوم في البنتاغون بعقيدة “التمكين العملياتي للحلفاء المتقدمين”، والتي تتعامل مع إسرائيل ليس كحليف دفاعي محدود، بل كمنصة متقدمة لإدارة جزء من المعركة الجوية في حال اندلاع نزاع واسع النطاق.
ووفق تقديرات مراكز أبحاث مثل “RAND” و”CSIS”، تعتبر قيادات البنتاغون أن ضمان استمرارية فاعلية الدفاعات الإسرائيلية يتطلب إشرافاً تشغيلياً مباشراً في المراحل الحرجة من أي صراع، خصوصاً عند تشعب الجبهات وتزامن التهديدات من سوريا، لبنان، العراق، وغرب إيران، وفشل أي طبقة من طبقات الدفاع الإسرائيلي في احتواء الموجة الأولى، واضطرار إسرائيل لاستخدام الذخائر الأميركية المخزّنة لديها ضمن برنامج War Reserve Stockpile.
بالتالي، تتحول الولايات المتحدة من شريك دفاعي تقليدي إلى قائد تكتيكي احتياطي جاهز لتولي العمليات الجوية، وهو ما يفتح باباً لتكامل أكبر مع الناتو، ودور محتمل للحلف في إدارة عمليات الردع الجوي الشامل في شرق المتوسط.
شراكة رمادية تتبلور في الظل
ورغم أن إسرائيل ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإن العلاقات بين الطرفين تجاوزت منذ أكثر من عقد الطابع البروتوكولي التقليدي، لتدخل نطاق ما يُعرف في الأدبيات الأمنية بـ”الشراكة الرمادية” أي شراكة غير رسمية، لكنها حقيقية ومؤثرة، تزداد تبلوراً مع تصاعد التهديدات العابرة للدول والمجالات.
وقد بدأت هذه العلاقة تتخذ شكلاً عملياتياً تدريجياً منذ انضمام إسرائيل إلى برنامج “الفرص المتقدمة” عام 2016، ثم ازدادت عمقاً بعد نقلها من مظلة القيادة الأميركية الأوروبية ،إلى القيادة المركزية الأميركية عام 2021، وهو تطور مؤسسي أتاح تقاطعاً تشغيلياً مباشراً مع وحدات الأطلسي المنتشرة في المتوسط والخليج، حيث تم إجراء:
1. مناورات بحرية وجوية مشتركة، خاصة في شرق المتوسط، تتضمن محاكاة سيناريوهات هجوم صاروخي واسع.
2. تبادل بيانات استخباراتية تكتيكية حول منظومات الإطلاق الإيرانية، والمسارات الجوية للمسيّرات بعيدة المدى.
3. نقل المعرفة والخبرة الإسرائيلية في مجالي الحرب السيبرانية واعتراض التهديدات منخفضة البصمة، إلى شركاء أوروبيين يعانون فجوات مماثلة في شرق أوروبا.
ورغم أن الناتو لا يمتلك سلطة نشر منظومات دفاع جوي مستقلة داخل إسرائيل، فإن احتمال تورط الحلف في حرب إقليمية، سواء عبر التزاماته مع الولايات المتحدة أو بفعل تهديد مصالحه الحيوية في المتوسط، قد يُسرع من تفعيل دور عملياتي ميداني للناتو ضمن المجال الجوي الإسرائيلي في حالتين، الأولى فشل الطبقات الدفاعية الإسرائيلية في اعتراض وابل صاروخي واسع، والثانية في حال استهداف بنى تحتية أطلسية أو مراكز انتشار للناتو في المتوسط من طرف إيران أو حلفائها، ما يُشكل ذريعة جماعية لتدخل الحلف وفق المادة الخامسة.
وفي هذه الحالة، سيُطلب من الناتو توفير، مظلة إنذار مبكر ورادارات تكتيكية عبر الأصول المنتشرة في قبرص، اليونان، وإيطاليا، وتعزيز الانتشار البحري والجوي في شرق المتوسط، لتوفير تغطية إضافية ضد التهديدات العابرة للمجال الجوي الإسرائيلي، وربما المشاركة في عمليات الدفاع السيبراني والتشويش الإلكتروني ضد مصادر الهجوم.
ورغم الحساسية السياسية لهذا السيناريو، إلا أن الخبراء داخل مقر الحلف في بروكسل يرونه متوقعاً لا محالة في حال اندلاع حرب طويلة الأمد بين إسرائيل والمحور الإيراني، خاصة مع التوسع المتزايد في قدرات طهران الهجومية وارتباطاتها العسكرية مع روسيا.
ومع تصاعد وتيرة الضربات واتساع أمد الحرب، سيتلاشى تدريجياً الخط الذي يفصل بين منظومة الدفاع الإسرائيلية، والمنظومات الأميركية والأطلسية، وستغدو إسرائيل مكوناً فاعلاً في شبكة دفاع جوي إقليمية متكاملة، تُدار من خلال غرفة عمليات متعددة الجنسيات، وتتوزع أدوارها وفق الاعتبارات التكتيكية لا الاعتبارات السيادية.
وإسرائيل، رغم تفوقها التقني، تدرك تماماً أن صمود مظلتها الدفاعية في حرب شاملة لن يتحقق دون كتف أميركية ثابتة، وغطاء أطلسي مرن، لهذا، فإن مصير هذه المنظومة – كما مصير الصراع الإقليمي كله – بات مشروطاً بإرادة التكامل، لا برغبة التفوق المنفرد.