حربٌ لتغيير النظام والشرق الأوسط

حربٌ لتغيير النظام والشرق الأوسط

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
17 حزيران 2025

الآن نضجت لحظة الصفحة الأخيرة من مخطط إسرائيل لإسقاط «المحور»: بعد «قصقصة» الأجنحة في لبنان وسوريا وغزة والعراق واليمن، حان أوان الرأس في طهران. وبناءً على التجارب، هذا الإسقاط يبدو شبه حتمي، سواء تمّ بالضربة العسكرية القاضية أو بالاستسلام الديبلوماسي، عاجلاً أو آجلاً.

لاستطلاع ما تريد أن تحققه إسرائيل في عمليتها الحالية ضدّ إيران، يجدر التأمل في المغازي الكامنة وراء التسمية التي أطلقتها عليها. فشعار «الأسد الصاعد» يكشف كثيراً، بما يوحيه من أبعاد تاريخية وتوراتية ونفسية.

1- يرمز الأسد إلى القوة والهيمنة. واختيار إسرائيل هذا الشعار يعني أنّها تستنهض كل قوتها لإزاحة نظام إيران الذي يشكّل منافساً حقيقياً لها، بطموحاته التوسعية وبرنامجه النووي، حتى يخلو لها الشرق الأوسط وحدها، كقوة إقليمية عظمى.

2- يحمل هذا الشعار أبعاداً توراتية وتاريخية عميقة. فقد ورد في سفر العدد (23:24): «هُوَذَا شَعْبٌ يَقُومُ كَلَبْوَةٍ وَيَرْتَفِعُ كَأَسَدٍ. لاَ يَرْبِضُ حَتَّى يَأْكُلَ فَرِيسَةً وَيَشْرَبَ دَمَ الْقَتْلَى». كما يُربط الأسد بتاريخ الملك داود المنحدر من سبط يهوذا الذي يُرمز إليه بالأسد. وهذا الربط يضفي على العملية بعداً أيديولوجياً، إذ يضعها في سياق سردية يُراد منها إكساب العمل العسكري شرعية دينية وتاريخية، وتوحيد القوى الداخلية حوله.

3- وهذا هو البعد الأكثر تعقيداً ودهاءً. إن شعار «الأسد الصاعد» يذكّر الشعب الإيراني بتاريخه الفارسي الذي كان يعتمد الأسد والشمس شعاراً قومياً لقرون. وهذا الشعار أزالته الثورة الإسلامية التي أرساها الإمام الخميني في العام 1979. ولذلك، هو يمثل رمزاً للهوية الإيرانية قبل سيادة الإيديولوجيا الثورية.

وهذه النقطة الأخيرة تكشف الهدف الاستراتيجي الأكبر الذي تعمل إسرائيل على تحقيقه في عمليتها الحالية، وهو إطاحة النظام الإسلامي أو دفعه إلى الاستسلام الشامل. فمن خلال ضرب مقوماته ومنشآته النووية، هي تسعى إلى شل قدرته وتأمل في أن يؤدي ذلك إلى زعزعة استقراره أمام انتفاضة تقوم بها قوى المعارضة التي أُقصيت بعد سقوط الشاه، أو على الأقل إرغامه على تغيير سلوكه وتطلعاته الاستراتيجية.

وقد عبّر عدد من أركان حكومة بنيامين نتنياهو عن آمالهم في أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء في إيران، وتتولّى السلطة هناك قوى مستعدة للتخلّي عن الطموحات التوسعية وإقامة علاقات طيبة، بل تحالف مع إسرائيل. وليس سراً أنّ الأدبيات اليهودية التقليدية تتغنى بالتحالف مع الفرس منذ زمن قورش الذي أنهى السبي اليهودي بعد استيلائه على بابل، في العام 539 قبل الميلاد، وسمح لهم بالعودة إلى القدس وبناء الهيكل الثاني.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل إن الظروف ناضجة فعلاً في إيران للتغيير السياسي الذي ترغب فيه إسرائيل؟

ثمة عوامل قد تدفع في هذه الاتجاه، وهي:

1- الحجم الهائل للضربات العسكرية الإسرائيلية التي أصابت القيادة العسكرية برمتها، وقد تصل لاحقاً إلى المرشد علي خامنئي، إذا كان السيناريو استهداف النظام شبيهاً بسيناريو استهداف «حزب الله»، إذ كان كثيرون يعتقدون أنّ إسرائيل لن تتمادى إلى حدّ اغتيال الأمين العام السيد حسن نصرالله.

2- الضغوط الاقتصادية الهائلة التي تعانيها طهران منذ سنوات، ويرافقها سوء إدارة أرهق الاقتصاد الإيراني وأوقع السلطة في عجز عن تلبية أبسط الاحتياجات، وهو ما أثار احتقانات شعبية في كثير من الأحيان.

3- مع تقدّم المرشد الأعلى في السنّ، تلوح في الأفق معركة خلافة قد تضعف النظام وتكشف عن انقسامات داخلية، ظهرت بعض ملامحها في اختيار رئيس الجمهورية الحالي مسعود بزشكيان، بعد مقتل الرئيس ابراهيم رئيسي في تحطّم مروحيته.

4- خسر النظام جزءاً كبيراً من قدرات الحلفاء في لبنان وغزة وسوريا والعراق واليمن. وهؤلاء كانوا يشكّلون متاريس متقدّمة للدفاع عن الثورة الإسلامية.

لكن كل هذه العوامل تقابلها تحدّيات قد تمنع حدوث تغيير في النظام، وأبرزها:

1- يمتلك هذا النظام أجهزة أمنية وعسكرية ما زالت قوية على رغم الضربات الإسرائيلية، وأبرزها «الحرس الثوري» و«الباسيج» التي تتولّى بقوةٍ قمع أي تحركات معارضة.

2- تفتقر المعارضة الإيرانية، سواء في الداخل أو الخارج، إلى قيادة موحّدة أو رؤية استراتيجية واضحة للتحول، وهذا ما يحدّ من تأثيرها.

3- أظهر النظام مرونة وقدرة على التكيّف مع التحدّيات طوال عقود.

4- يتسمّ سلوك جزء من الشعب الإيراني بالخوف. فهو يفضّل الاستقرار النسبي القائم حالياً على مخاطر الفوضى التي قد تنتج من تغيير النظام جذرياً. والدروس المستقاة من التجارب في دول شرق أوسطية أخرى قد تشجعه على ذلك.

إذاً، هي وضعية «كباش» دموي حاد، يشعر فيها حكام إيران وإسرائيل على حدّ سواء بأنهم في خضم معركة حياة أو موت. وفي أي حال، لن تنتهي الحرب إلّا بإعادة تشكيل المشهد الإقليمي. وفي تقدير عدد من الخبراء، هذا الأمر قد لا يتحقق في مدى قصير، لكنه يبدو محسوماً في المديين المتوسط والبعيد.