
الولايات المتحدة… إسرائيل وإيران: الحرب المُدمّرة وخياراتها
– الصواريخ البالستية تثبت أن الهيمنة الجوية والاستخبارية وحدها لا تكفي لحماية المعتدي من دمار متبادل
رغم التفوق المرتفع الساحق لإسرائيل، أثبتت إيران من خلال صواريخها البالستية، أن الهيمنة الجوية والاستخبارية وحدها لا تكفي لحماية المعتدي من دمار متبادل، بينما يرجح أن تُسرّع دول أخرى للاستثمار في ترساناتها الصاروخية، مستفيدةً من الدروس الإستراتيجية ومن تجربة الصراع بين العدوين اللدودين.
وفي السياق، مازال طريق الخروج من الحرب، بعيداً. فالصراع مازال يتطور لتصل المعركة إلى مستوى «كسر العظم»، يطلب استسلام إيران ليس إلا، ويبدو أي أمل في خفض التصعيد، هشاً وبعيد المنال. وقد أغلق الرئيس دونالد ترامب، الباب، مكرراً تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن إيران على وشك صنع قنبلة نووية ويجب عليها تفكيك وإنهاء برنامجها بالكامل.
يتناقض هذا الموقف مع تقييمات من داخل إدارته، بما في ذلك تقييم تولسي غابارد، وهي المسؤولة الاستخبارية البارزة، والتي قالت إن طهران لا تسعى لامتلاك قنبلة نووية، وأنها تخلت منذ عام 2003 عن طموحاتها النووية العسكرية تماشياً مع فتوى أصدرها المرشد الأعلى السيد علي خامنئي – الذي اقترح نتنياهو اغتياله علناً.
في الواقع، هذه هي حرب نتنياهو. إنه يبذل قصارى جهده لجر الولايات المتحدة وأوروبا إليها، لأن إسرائيل لا تستطيع تحمل مثل هذا الصراع بمفردها، بغض النظر عن سيل الأسلحة والدعم الاستخباري.
تسعى إسرائيل بنشاط إلى تشكيل تحالف عسكري لتجنب خوض حرب بدأتها بمفردها. وقد حذّر نتنياهو من أن الصواريخ الإيرانية تُشكّل خطراً قد يصل إلى المملكة المتحدة وفرنسا. وقد أعلنت الدولتان حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، عندما تعرّضت إيران لهجوم ولم تُطلق رصاصة واحدة. وأعربتا عن نيتهما نشر قوات في المنطقة – ظاهرياً للمساعدة في اعتراض الصواريخ وتخفيف العبء عن دفاعات إسرائيل المُرهَقة.
والأهم من ذلك، أن وجود مثل هذه الدول في وسط المعركة، يُوفّر لنتنياهو غطاءً سياسياً. فمن خلال إشراك القوى الأوروبية، فهو يأمل في إضفاء الشرعية على حربه اللاشرعية بموجب القانون الدولي، بينما يواصل رئيس الوزراء الدعوة إلى تفكيك البرنامج النووي، مُقترحاً أن يضمن العلماء والمفتشون الأميركيون عدم بقاء أي شيء منه.
كما أن نتنياهو بحاجة ماسة إلى الولايات المتحدة، ليس فقط لتشكيل تحالف والقتال إلى جانبه وتوفير الأسلحة والمعلومات الاستخبارية، بل أيضاً للسعي إلى تغيير النظام في إيران – وهي عملية لا تمتلك إسرائيل فيها خبرة ولا شرعية عالمية.
على النقيض من ذلك، تملك الولايات المتحدة، تاريخاً طويلاً في تنظيم مثل هذه التدخلات، وفي حسابات نتنياهو، ستكون أكثر قبولاً دولياً، كواجهة لأي انقلاب في طهران.
ويُقدّم نتنياهو نفسه أيضاً كمنقذ لإسرائيل التي يزعم بأنها تُواجه تهديداً وجودياً – ولأوروبا، مُدّعياً أن ترسانة إيران الصاروخية الحالية تطولها وأن قدراتها النووية المُحتملة في المُستقبل قد تصل إلى القارة العجوز.
ويحظى رئيس الوزراء، بدعم سياسي كامل في الداخل، ليس فقط من حزبه، بل أيضاً من جميع الشخصيات المُعارضة «المُتحدة» في زمن الحرب. ومع ذلك، بدأ الشعور بالإرهاق يتسلل بوضوح إلى الجمهور. وبدأ الكثيرون يتساءلون عن سبب عجز الجيش، الذي يُفترض أنه لا يُضاهى، عن توفير الأمن الذي ظنّ المواطنون أنهم سيجدونه في البلاد.
أنماط الصواريخ وإشارات خفض التصعيد
أطلقت إيران ليل الاثنين – الثلاثاء، عدداً محدوداً من الصواريخ البالستية على ثلاث دفعات، وهو انخفاض ملحوظ مقارنةً بـ 380 صاروخاً أطلقتها على مدار 15 ضربة منسقة خلال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، عدا عن مئات الطائرات المسيرة وصواريخ كروز. ومع ذلك، ورغم انخفاض عدد الصواريخ، ظل المدنيون الإسرائيليون محاصرين في الملاجئ طوال الليل، خوفاً من ضربة وشيكة على تل أبيب وحيفا، اللتين لحقت بهما أضرار ظاهرة بالفعل.
قد يشير هذا الانخفاض المفاجئ إلى انخفاض مخزون إيران الصاروخي. ويمكن لطهران، دراسة اقتراح أميركي «مُعدّل»، كوسيلة لإنهاء الحرب ومنع انتشارها إلى الشرق الأوسط الأوسع، خصوصاً إذا تجنبت الولايات المتحدة التدخل العسكري المباشر.
ويعتقد الرئيس دونالد ترامب حالياً، أن إيران خاسرة، ولم يُلمّح إلى تقديم تنازلات لفتح باب التفاوض. من ناحية أخرى، إذا أظهرت إيران أي علامة ضعف أو خفضاً صاروخياً، جدياً، فسيصبح نتنياهو «مفترساً» ولن يُحدد موعداً لإنهاء عدوانه العسكري. سيكون ذلك بمثابة دعوة لتدمير إيران، إذ قد تصبح سمكة قرش ضعيفة بلا أنياب. ولتحقيق هذا الاستنتاج، يلزم بضعة أيام من المراقبة.
الحرب النفسية واقتصاد الصواريخ الاعتراضية
يبدو أن إيران تُبطئ إطلاق صواريخها عمداً – إذ تُرسل دفعات صغيرة من 3 إلى 5 صواريخ على فترات غير منتظمة كل 30 إلى 60 دقيقة.
ويُمثل هذا تحولاً إلى حرب نفسية تُذكر بأسلوب الإيهام بالغرق والحرمان من النوم على طريقة أساليب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إي). وقد صُمم هذا التكتيك لاستنزاف مخزونات الصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية، وإرهاق أفراد الدفاع الجوي، ومحاولة إضعاف معنويات المدنيين من خلال تنبيهات متكررة وغير متوقعة للملاجئ.
يتفاقم هذا التعب الإستراتيجي بتحدٍّ لوجستي: فأنظمة الاعتراض غير مهيأة لمثل هذه الهجمات البالستية عالية التردد. وتكشف تهديدات الصواريخ الأسرع من الصوت عن هذه الفجوة في شكل أكبر، كما أن إنتاج صواريخ اعتراضية جديدة يتطلب وقتاً وتكلفة كبيرين. وقد كشف الوضع عن محدودية الدرع الصاروخية.
في موازاة ذلك، وفي ظل الهيمنة الجوية الإسرائيلية الكاملة، وحركة نزوح غير مسبوقة للمدنيين من طهران، التي تضم 10 ملايين شخص، إثر دعوة الرئيس الأميركي غير المسبوقة لإخلاء العاصمة، يعمل الجيش الإيراني الآن بقيود أقل في ما يتعلق بالخسائر المدنية.
فإيران شاسعة المساحة، ويرتبط سكانها ارتباطاً وثيقاً عبر أراضيها وفي كل أنحاء الشتات. في المقابل، يعيش الإسرائيليون بعزلة إلى حد كبير. مع إغلاق المطارات ومنع عمليات الإجلاء، أصبحت خطط إعادة التوطين الطارئة – بما في ذلك تلك الموضوعة في قبرص – غير متاحة. وقد غادر العديد من المدنيين، تل أبيب إلى الريف أو البلدات الصغيرة، خوفاً من تبادل مطول للهجمات.
ويزداد قلق الإسرائيليين من التحصينات الداخلية. فقد انهار أحد الملاجئ في تل أبيب تحت الضغط، مما أسفر عن مقتل وإصابة الكثيرين. وأصبحت المدينة، أشبه بضاحية مزقتها الحرب في بيروت، أكثر منها مركزاً حضرياً آمناً كما كانت في السابق.
إلا أن هذا الإرهاق والخسائر يعوضهما الانتصار اليومي من خلال حرية العمل فوق الأجواء الإيرانية ونشوة الفوقية والتفوق.
لماذا تُستهدف إيران؟
لعقود من الزمن، دعت إيران إلى القضاء على إسرائيل، بحجة أن قيامها قائماً على الاحتلال والتهجير والمجازر بحق الشعب الفلسطيني. وتعارض الاعتراف بإسرائيل، وتدعم ما تصفه بالمقاومة الفلسطينية المشروعة.
كما أن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، دفع طهران لتخصيب اليورانيوم إلى 60 في المئة وتخزين أكثر من 400 كلغ – وهو ما يكفي لصنع تسعة أسلحة نووية إذا تم تخصيبه إلى 90 في المئة.
وقد أثارت هذه الخطوة، إلى جانب التهديدات الخطابية لطهران، قلق القوى الإقليمية والدولية، إذ إن أيديولوجية إيران الثورية، ودعمها العسكري والمالي الواسع للجهات غير الحكومية – بما في ذلك، «حزب الله» في لبنان، والمقاومة في العراق، والحوثيين في اليمن، والعديد من الفصائل الفلسطينية وملء الفراغ الإستراتيجي الذي خلفته الولايات المتحدة، قدم لها دوراً أكبر شرق أوسطي.
إضافة إلى ذلك، فقد صرّح المسؤولون الإيرانيون مراراً وتكراراً بأن طهران تمارس نفوذاً على «سبع عواصم عربية»، وهو تباهٍ عمّق انعدام الثقة الإقليمي. وقد أثارت هذه التصريحات قلق ومخاوف في الدول المجاورة.
ولم تقبل إسرائيل قط، باستقلالية إيرانية إستراتيجية في المنطقة. ورفض نتنياهو، على وجه الخصوص، باستمرار أي تواصل دبلوماسي مع إيران بما يختص بالملف النووي… والحرب الحالية نتيجة مباشرة لهذه المعارضة المستمرة.
الخلاصة
كشفت الحرب التي تشنها إسرائيل عن حدود الردع، وهشاشة التفوق العسكري، وثمن التحدي من دون احتساب قدرات الطرف المعادي.
وتحتفظ إسرائيل، بدعم ضمني من الولايات المتحدة، باليد العليا في تحديد مدة الحرب – وشروط انتهائها. إلا أن إيران لا تستطيع التفاوض تحت وطأة النيران إلا بالاستسلام. وتتطلب أي عملية دبلوماسية حقيقية، وقف الأعمال العدائية، وضمانات دولية، والاعتراف بعدم التدخل في إيران.
وطالما استمرت الصواريخ في التحليق، فإن الدبلوماسية تظل مستبعدة. كما أن أي امتداد إقليمي للصراع يُهدد باضطرابات حادة في إمدادات الطاقة العالمية.
تُعدّ دول المنطقة من الدول الرئيسية المُصدرة للنفط، وقد تُصبح صادراتها وممراتها الملاحية – ولا سيما مضيق هرمز – متضررة في حرب متصاعدة. ومن شأن أي مواجهة أوسع نطاقاً – إذا احتفظت إيران بقدرات صاروخية – أن تُهدد التدفق الآمن للنفط والغاز إلى آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، ما قد يُؤدي إلى ارتفاعات حادة في الأسعار وعدم استقرار اقتصادي.
ويُؤكد الخوف من مثل هذا الاضطراب على الحاجة المُلحة لخفض التصعيد.