المكوّنات والمقادير

المكوّنات والمقادير

الكاتب: زياد شبيب | المصدر: النهار
21 حزيران 2025

كالعادة يمارس لبنان هواية الانتظار، وهو اليوم يحصل على إيقاع التحولات الهائلة التي تشهدها المنطقة والعالم. أما في الماضي فكان الانتظار يحصل في أجواء الرتابة والاستنقاع. السياسة نفسها إذًا أما الفارق فهو بين ظروف ممارستها وبين الملل والتشويق. الانتظار في الماضي في زمن التوازنات السابقة التي بدأت بالتبدّل عبر التفجّر، كان ربما مبرّرًا لأن البلد لا يسمح للقيمين عليه بادعاء الأدوار التي تفوق قدراته. ولكن اليوم ثمّة من لا يفهم ولا يتفهّم سياسة الانتظار. أول هؤلاء هم الأميركيون وقد ثابر موفدو الإدارة السابقة والحالية على الحجّ إلى لبنان للتنبيه والدفع إلى المبادرة باتجاه استعادة زمام الأمور في البلد أو بعضها ولكن التجارب والمهمات تعددت وتراكمت واتخذت طابعًا نمطيًّا يمكن قراءة مآلاته مسبقًا.

بالأمس حضر الموفد الأميركي اللبناني الأصل السفير توم برّاك والمهمة معروفة ولكن النتيجة أيضًا معروفة مسبقًا، لأن لبنان أدمن الانتظار. لا يرغب اللبنانيون، المسؤولون تحديدًا، في تحديث البرنامج الذي نشأوا عليه في السياسة وتكوّنوا عليه في زمن الوصايات المتتالية، وهذا ينطبق على من تولّى المسؤولية بصرف النظر عن خلفياته السابقة وعمّا إذا كان جزءًا من النظام السابق القائم أو ما يسمّى “المنظومة” أم لا. لقد تبيّن بأن دخول الحلقة العليا من السلطة يطبع الأشخاص بالطابع السائد ويفرض عليهم برنامجًا واحدًا أو software لم يجرِ تحديثه بعد أو ربما هو أصبح غير قابل للتحديث ويحتاج إلى الاستبدال بآخر يفهم لغة المرحلة الجديدة التي يزمع لبنان والمنطقة على دخولها بالقوة والتدمير وعلى إيقاع الصواريخ.

لا يتمنّى أي لبناني مخلص أن يحصل الانتقال المنشود في هذا البلد بالقوة أو العنف أو بالانقلابات، وقد منّ علينا الله بأن بقي لبنان في منأى عنها في عصر ازدهارها وتدحرج الأنظمة منتصف القرن الماضي وما تلاه، ولكن تلك الحصانة المتأتية من بعض الحريّات والديمقراطية الظاهرة، تحوّلت مع السنين ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية إلى مناعة للنظام الحاكم القائم على تعدديّة في الرؤوس وأحاديّة في النهج المافيوي وعلى المساواة بين القوى الحاكمة في التكوين الطائفي وفي السعي لاحتكار التمثيل الطائفي للبقاء في السلطة وضمان الحصة الأكبر منها. وبذلك أصبحت القوانين الانتخابية الوسيلة التي بها تُسخّر القواعد الديمقراطية وتشوّه لكي يتوزّع الحاكمون السلطة.

كل ما حصل من تعديلات وقوانين في هذا الإطار بما فيها القانون الانتخابي الحالي لم يؤدِّ إلى تغيير في طبيعة النظام الحاكم. وهو لن يؤدّي إلى أي تغيير نوعي في المستقبل. والسبب مردّه إلى ما يسمّى بالـ “مكوّنات”، وهذا التعبير يراد منه القول بأن القوى السياسية الأساسية المهيمنة على النظام أو التي تشكّل بنهجها المتشابه هذا النظام، تعتبر نفسها مكوّنات اجتماعية وسياسية لا يمكن استبعادها تحت خطر تفتت البلد الذي “تُكوِّنه” أو “يتكوّن” منها.

إن هذا الوهم تمّ فرضه بالاتفاق بين القوى السياسية المتناحرة، لأنها تستفيد منه جميعها، وهو وهمٌ لأن التكوين الاجتماعي للشعب يختلف عن تكوينه السياسي أو هو يجب أن يختلف عنه. والقوى السياسية لا يمكن تسميتها “مكوّنات”، أما الطوائف الدينية فهي مكوّنات اجتماعيّة ولكنها ليست كيانات سياسية، ويجب ألّا تكون.

على هذا الأساس، إن من يترقّب الانتخابات المقبلة ويعمل على التأثير في قانونها وفي نتائجها، عليه ألّا يتوقّع تغييرًا في النظام القائم أو في الـ software الذي يشغّله، لأنك إذا أردت تناول طبق مختلف عن المعتاد لا يكفي أن تُعدّل المقادير بل عليك بتغيير “المكوّنات”.