
هل سقوط نظام الملالي في إيران ينهي أزمة “الحزب” في لبنان؟
قد يخال البعض أنّ سقوط ولاية الفقيه سيلزم عنه بالضّرورة سقوط أذرعها في المنطقة، وأوّلها ذراعها اللّبنانيّ. ولكنّ هذا الطّرح يتّخذ منظورًا خارجيًّا يتجاهل بدوره الجانب الآخر من بنية “حزب الله” اللّبنانيّ؛ عنيتُ طبيعته العضويّة التي نشأت في بيئةٍ مناهضةٍ للّيبراليّة، سواءٌ أكان رفض مذهب التّحرّر مبنيًّا على المقدّس الماركسيّ (الشيوعيّون الشّيعة) أم المقدّس الإسلاميّ (الإسلاميّون الشّيعة). وهذا الرّفض البنيويّ لأفكار اللّيبراليّة وما تشمله من حرّيّة التّعبير والتّفكير والنّقد، فضلًا عن التّسامح الثّقافيّ-الدّينيّ يصعّب عمليّة تطبيع المجتمع الشّيعيّ في لبنان مع أفكار المساواة ونبذ التّفوّقيّة “supremacy” التي نادى بها الحزب الخمينيّ.
لذا، يصعب تخيّل سقوط حزب الله في مجتمعه المؤدلج عقائديًّا؛ فالأيديولوجيا الدّينيّة للحزب الخمينيّ اللّبنانيّ لم تتفكّك داخليًّا، على الرّغم من وجود ثغراتٍ فيها (مثل أزمة الشّكّ المنهجيّ التي قد تقود البعض نحو رفض المقدّس الدّينيّ كلّه، وتاليًا نبذ المشروع السّياسيّ، ما يتبلور في العمالة لإسرائيل أو الهروب من القتال الفعليّ حفظًا للذّات).
ولا شكّ في أنّ سقوط الدّاعم الماليّ والعسكريّ لـ “حزب الله” سيُضعف مشروعه التّوسّعيّ في الدّاخل اللّبنانيّ، كما سيؤخّر الصّدام العسكريّ المحتوم بينه وبين المجتمعات الرّافضة لتمدّده الطّائفيّ وهيمنته على القرار المركزيّ. بيد أنّ احتفاظ “حزب الله” بمقوّماته الأيديولوجيّة والمجتمعيّة سيسهم في عمليّة إعادة بناء ترسانته العسكريّة. وليس كلام السّلطة اللّبنانيّة الجديدة عن تسليم السّلاح (أو تنظيمه) سوى دليلٍ آخر على هيمنة “حزب الله” وسلبطته على السّلطة المركزيّة، وتحكّمه بالتّمثيل الشّيعيّ، لا بسبب التّرهيب بحدّ ذاته، بل نتيجة الوعي الجمعيّ الذي يحرّك غالبية شيعة لبنان. فالوعي الشّيعيّ اللّبنانيّ لا زال يرى في سلاح الحزب الخمينيّ وتصوّره السّياسيّ مستقبلًا مشروعًا يتيح له الهيمنة والتّفوّق. وهذا ما أخفقت في تلقّفه الأحزاب السّياديّة أو المسيحيّة أو المعارضة لـ “حزب الله” عمومًا، وانعكس في فشل طرح “المصارحة والمصالحة” منذ 2005. ففي مجتمعٍ يقدّس الحرب يكون السّلام كفرًا، والرّفاهيّة الاجتماعيّة تخاذلًا، والمساواة بين المجتمعات اللّبنانيّة امتيازًا. أمّا الرّهان على معارضةٍ داخليّةٍ (شيعيّةٍ) للحزب الخمينيّ، فهو شبيهٌ بالرّهان على المعارضة الألمانيّة للحزب النّازيّ: خطابٌ نخبويٌّ وبعيدٌ عن النّزعة العسكريّة-التّوسّعيّة لغالبيّة المجتمع.
لذلك إنّها لمغالطةٌ استدلاليّةٌ عدّ سقوط الرّاعي الإقليميّ لـ “حزب الله” انهيارًا لمنظومته الاجتماعيّة والعقائديّة. فالهويّات والأيديولوجيّات، على الرّغم من تبدّلها أو تحوّرها، تحتفظ بعناصرَ أساسيّةٍ تميّزها وتحدّدها. خذ مثلًا: كوريا الشّماليّة، إذ لم يؤدِّ انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ وتفكّكه إلى سقوط النّظام الشّيوعيّ في بيونغيانغ التي طوّرت بنفسها تصوّرًا أيديولوجيًّا متمايزًا (يُدعى جوتشيه “Juche”) احتفظ بعناصرَ ماركسيّةٍ فيما انحرف بأخرى ليشكّل خصوصيّةً كوريّةً شماليّةً استطاعت البقاء بعد تهالك الأنظمة الشّيوعيّة.