
بعد الحرب… هل حانت لحظة “كسر المحرم”؟
مصدر أميركي يقول إن المفاوضات قد تفضي إلى سلام مباشر بين إيران وإسرائيل ومحلل إيراني يرد بأن موقف النظام اليوم أقوى مما سبق
مع وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة وتوصلت إليه مع الجانبين الإسرائيلي والإيراني، تدخل المنطقة مرحلة اختبار حذر: هل يُمكن البناء على هذه الهدنة للانتقال إلى جولة مفاوضات مباشرة؟ وهل يمكن أن تُفضي لاحقاً إلى تطبيع تدريجي للعلاقات بين إسرائيل وإيران؟
يبدو أن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة عنوانها التحول من الفوضى إلى الدبلوماسية، ولكن بميزان قوى مختلف تماماً. فبعد موجة عنف غير مسبوقة دامت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران، بدا واضحاً أن النيران التي اشتعلت ليست عبثية، بل كانت تهدف إلى إعادة ضبط الإيقاع الإقليمي. وكما قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، فإن “الدبلوماسية بالقوة” هي السبيل لفرض شروط السلام، لا الاستسلام لمحاور الهيمنة.
ومع وقف إطلاق النار الذي رعته الولايات المتحدة وتوصلت إليه مع الجانبين الإسرائيلي والإيراني، تدخل المنطقة مرحلة اختبار حذر: هل يُمكن البناء على هذه الهدنة للانتقال إلى جولة مفاوضات مباشرة؟ وهل يمكن أن تُفضي لاحقاً إلى تطبيع تدريجي للعلاقات بين إسرائيل وإيران؟ هذا هو المسار الذي تراهن عليه واشنطن في إطار مشروع أوسع لإعادة تشكيل المنطقة وإنهاء الصراع الذي امتد لعشرات السنين، وإرساء سلام مستدام على أنقاض نظام الهيمنة والفوضى.
مفاوضات تحت النار
وفقاً لمصدر دبلوماسي أميركي مواكب لسياسة الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة تتطلع إلى تحقيق استقرار طويل الأمد في المنطقة يقوم على سلام فعلي بين دولها، لا على توازنات هشة تدار بالحروب والتصعيد. وهذه، بحسب المصدر، هي جوهر خطة الرئيس دونالد ترمب، التي ترتكز على فرض السلام من خلال كسر أدوات الفوضى. ولكي تنجح هذه الخطة، كان لا بد من ضرب المعطلين الأساسيين للاستقرار، وفي طليعتهم إيران، التي شكلت لعقود العامل الأخطر في زعزعة المنطقة.
اليوم، وبفعل المتغيرات الأخيرة، يرى المصدر أن المفاوضات قد تُفضي إلى ما كان مستحيلاً سابقاً، وهو طرح سلام مباشر بين إيران وإسرائيل، بما يشمل تطبيع العلاقات ونزع فتيل أية حروب محتملة كشرط لا غنى عنه لتحقيق استقرار شامل يعود بالخير على شعوب المنطقة كافة.
في رؤية المصدر الأميركي، فإن اللحظة الحالية تشكل “الفرصة الأخيرة” للنظام الإيراني للنجاة. فالعالم لم يعد يقبل بإيران كقوة مهددة، بل يريدها دولة ضمن حدودها، تُعنى بمصالح شعبها، وتكف عن تصدير الأزمات. فالوقت يضيق، والنظام بات أمام مفترق حاسم: إما التغيير الجذري في السلوك والخطاب، أو مواجهة عزلة دولية شاملة، وربما انهيار داخلي تدريجي.
وبرأيه، فإنه بعد الحرب باتت الأجواء مهيأة لما كان مستحيلاً قبل أسابيع فقط، وهو عودة الانطلاق بمفاوضات شاملة وببنود جديدة وسياق مختلف بعد سقوط أوراق “الابتزاز”، لافتاً الى أن تلك المفاوضات قد تنتهي بضبط التهديد الإقليمي لإيران بأقل تقدير وقد تصل مستقبلاً إلى طرح مفاوضات السلام مع إسرائيل.
تحول استراتيجي
انطلقت شرارة الحرب بسرعة خاطفة، لكنها انتهت بسيناريو بدا وكأنه مُحضّر مسبقاً، فخلال الساعات الـ24 الأولى فقط فقدت إيران السيطرة على مجالها الجوي، وحلقت الطائرات الإسرائيلية بحرية فوق العمق الإيراني، وضربت مواقع صاروخية ومنشآت عسكرية ومرافق نووية. حتى القوات الأميركية، حين تدخلت، نفذت ضرباتها للمفاعلات النووية بحرية تامة، من دون أن تواجه أي اعتراض جدي من الدفاعات الجوية الإيرانية، التي بدت معطلة أو مكشوفة بالكامل.
خلال 12 يوماً، تم تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، بحسب المصدر الأميركي. المنشآت التي بنيت على مدى 45 عاماً، وبكلفة ناهزت التريليون دولار، أصبحت غير قابلة للتشغيل. كما تم إضعاف القدرات الصاروخية بنسبة كبيرة بعد استهداف مخازنها ومنصات الإطلاق. وجرى اغتيال عدد من الشخصيات البارزة المرتبطة مباشرة بإدارة وتطوير البرنامج النووي.
ويضيف المصدر أن من تم استهدافهم لم يكونوا مجرد قادة عسكريين، بل من “صقور الحرس الثوري” الذين شكلوا عائقاً جوهرياً أمام أي مسار تفاوضي حقيقي. وإزاحتهم من المشهد قد تُسهم، وفق المصدر، في تهيئة مناخ أكثر انفتاحاً باتجاه التسوية، خصوصاً أن هؤلاء كانوا يرفضون بشدة أي تنازل أو مرونة تفاوضية.
نهاية دور الأذرع
يكشف المصدر الدبلوماسي الأميركي، أنه بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وبانتظار تثبيته، تتحضر الإدارة الأميركية لطرح خيارات استئناف التفاوض، سواء في الدوحة أو عمان أو حتى في روما، لكن ضمن أجندة مختلفة تماماً. فـ”ما كان معروضاً في الجلسات السابقة لم يعد مطروحاً”. وإيران باتت الطرف الأضعف، وقد فقدت أوراق الضغط الرئيسة التي طالما استخدمتها، سواء النووية أو الصاروخية أو عبر أذرعها في المنطقة.
ويشير إلى أن الرئيس ترمب سبق أن أعطى طهران مهلة 61 يوماً للدخول في مسار الحل السلمي، لكنها ماطلت، ما استدعى منح الضوء الأخضر لإسرائيل لشن الضربات. هذه الضربات غيرت كل المعادلة، وأسست لنقطة انطلاق جديدة تستند إلى فرض شروط السلام بقوة الواقع العسكري.
ويجمع تقييم الإدارة الأميركية، وفق المصدر، على أن إيران لم تخسر فقط بنيتها العسكرية، بل وأدوات الابتزاز الإقليمي التي كانت تلوح بها باستمرار: “حزب الله”، الحوثيون، الفصائل العراقية والميليشيات السورية، فكلها كانت أدوات لزعزعة الاستقرار وفرض التهديد المستمر على خصوم طهران. وهذه الأدوات، بحسب المصدر، تآكلت ولم تعد صالحة للاستخدام بالفعالية السابقة. حتى الداخل الإيراني بدأ يشهد تململاً متصاعداً من دور “الحرس الثوري”، بعد أن تحول إلى مصدر استنزاف اقتصادي وعسكري، وأصبح يجر البلاد إلى مواجهات مكلفة من دون نتائج ملموسة.
حرية الحركة العسكرية
في السياق يلفت المحلل السياسي المتخصص في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، إلى أن إسرائيل وافقت على المقترح الأميركي على رغم أنها كانت في موقع ميداني متقدم، وحققت إنجازات عسكرية ملموسة داخل العمق الإيراني، خصوصاً ضد البنية النووية والصاروخية، خوفاً من الانزلاق إلى حرب استنزاف طويلة قد تؤدي إلى خسائر بشرية واقتصادية متراكمة، وتُفقدها عنصر المبادرة والتفوق التدريجي”.
وأضاف أن القرار الإسرائيلي بقبول وقف إطلاق النار جاء في لحظة سياسية حساسة، مع إدراك المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن الاستمرار في المواجهة قد يكون له مردود عكسي. مشيراً إلى وجود “كلمة مفتاح” في بيان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهي التلويح بـ “حق الرد” في حال تم خرق الهدنة من الجانب الإيراني، ما يعني أن تل أبيب تحاول فرض معادلة مشابهة لتلك المعتمدة مع “حزب الله” في لبنان، تُبقي يدها العسكرية طليقة نسبياً، حتى بعد وقف العمليات.
وعن مرحلة ما بعد الاتفاق، أوضح منصور أن إسرائيل تسعى، عبر الولايات المتحدة، إلى تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى ورقة تفاوضية سياسية تُترجم باتفاق يضمن لها منع إيران من العودة إلى طموحاتها النووية، ويحد من قدراتها الصاروخية. “هذا هو الهدف الإسرائيلي الأساسي الآن: تحويل النصر العسكري إلى مكاسب استراتيجية ودبلوماسية دائمة”، بحسب قوله.
وحول الاتفاق النووي، اعتبر أن صورة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية حول حجم الدمار الذي لحق بالمفاعلات النووية، لا سيما “فوردو” و”نطنز” و”أصفهان”، ستكون عاملاً حاسماً في تحديد شكل الاتفاق المقبل. فإذا تأكد تدمير هذه المنشآت فعلياً فإن الولايات المتحدة وإسرائيل ستعودان إلى طاولة المفاوضات من موقع متقدم، باعتبار أن البرنامج النووي عملياً قد توقف، ولم تعد هناك حاجة لإقناع طهران بوقفه.
وأضاف “تصريحات الحكومة الإسرائيلية بأن العملية حققت جميع أهدافها وأكثر، قد تكون في جزء منها للاستهلاك الإعلامي، لكن لا يمكن إنكار أن إسرائيل نفذت عملية عسكرية واسعة النطاق، تمكنت خلالها من السيطرة الجوية الكاملة على سماء طهران، وتوجيه ضربات قاتلة للبنية التحتية العسكرية والقيادية في إيران، بما في ذلك اغتيال علماء بارزين ومئات من عناصر الباسيج، بحسب ما أعلن رسمياً”.
وعن طبيعة التنسيق بين نتنياهو وترمب، شدد على أن “الحميمية في العلاقة بين الطرفين، ومستوى التنسيق غير المسبوق الذي شهدته العملية، يجعل من المرجح أن تضع الولايات المتحدة المطالب الإسرائيلية في صلب أي اتفاق مقبل مع إيران، خصوصاً أن تل أبيب تعتبر أنها قدمت الأرضية العسكرية لتسوية سياسية شاملة”.
استسلام سياسي – عسكري
من وجهة نظر المتخصص في الشؤون الدولية سمير سكاف، فإن ما جرى التوصل إليه من اتفاق لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل لا يمكن قراءته ببساطة على أنه مجرد هدنة، بل هو لحظة فاصلة قد تعكس استسلاماً سياسياً وعسكرياً كاملاً من جانب طهران، أو في الأقل بداية تراجع استراتيجي حاد في مشروعها الإقليمي والدولي.
ويقول إن إعلان ترمب رؤيته لـ “مستقبل مزدهر بين إسرائيل وإيران” لا يمكن أن يُفهم إلا بوصفه إعلاناً عن هزيمة إيران وإخضاعها لشروط اللعبة الجديدة في الشرق الأوسط. وبرأيه، فإن هذا يعني عملياً قبول طهران تجميد تخصيبها النووي، إن لم يكن إيقافه كلياً، في ظل مراقبة وضوابط أميركية صارمة.
ويطرح سكاف تساؤلات حول مدى جدية وقف إطلاق النار وقدرته على الصمود، بخاصة في حال عادت إسرائيل إلى سياسة الاغتيالات التي استهدفت قادة “الحرس الثوري” وكبار علماء البرنامج النووي الإيراني. مضيفاً “لا يبدو أن هناك مؤشرات على استدامة الاتفاق، إلا إذا باتت إسرائيل مقتنعة تماماً بأن الخطر النووي الإيراني قد زال بالكامل”.
ويرى أن المتغيرات الدولية لعبت دوراً خفياً في تغيير موقف طهران، مشيراً إلى أن زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى موسكو ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما حملت رسائل ضغط واضحة. ووفق قراءته، فإن بوتين قد يكون أبلغ الإيرانيين بأن ترمب جاد عسكرياً، وأن المغامرة بالصدام المباشر ستكون مدمرة.
“إيران أدركت أنها وحدها في مواجهة التحالف الأميركي– الإسرائيلي، وأن مشروعها النووي أصبح مكشوفاً، بل ومدمراً إلى حد كبير”، يقول سكاف، مضيفاً أن طهران اختارت في هذه المرحلة تفادي الانهيار، والعودة إلى المسار الدبلوماسي بشروط غير مسبوقة.
ويعتبر أن مشروع ترمب لا يقف عند حدود تفكيك البرنامج النووي الإيراني، بل يتعداه إلى تفكيك الأذرع العسكرية التابعة لطهران، بدءاً من “حزب الله” في لبنان، مروراً بالحوثيين و”الحشد الشعبي”، وصولاً إلى “حماس” في غزة. ويقول إن ترمب يريد إخضاع إيران لمنطق “الأمن الإسرائيلي” ضمن “شرق أوسط جديد بوصاية أميركية”، وقد يكون انضمام إيران إلى “اتفاقات أبراهام” أحد أهداف هذه المرحلة في حال تطورت الأمور نحو مزيد من الانفتاح.
فشل الخيار العسكري
في المقابل، رأى المحلل السياسي سعيد شاوردي، وهو مقرب من دوائر القرار في طهران، أن ما جرى خلال الأيام الـ 12 من المواجهة لا يعد انتصاراً أميركياً– إسرائيلياً، بل تجربة فاشلة لخيار عسكري ظلت واشنطن وتل أبيب تلوحان به طيلة سنوات، قبل أن تتكشف محدوديته على الأرض.
وقال “الرسالة باتت واضحة الآن: الخيار العسكري الذي هددت به الولايات المتحدة وإسرائيل لم ينجح، لا في ردع إيران، ولا في إعادتها إلى طاولة المفاوضات بشروط مذلة. بل على العكس، أظهرت إيران أنها تملك بدورها قدرة عسكرية قادرة على الرد والوصول إلى عمق أهداف العدو”.
وأضاف أن طهران لم تستخدم كامل ترسانتها خلال المعركة، بينما استخدمت واشنطن وتل أبيب أقصى ما لديهما من إمكانات، بما في ذلك طائرات الشبح والقنابل الخارقة للتحصينات. ومع ذلك، لم يتحقق ما وصفوه بـ “الحسم”. ووفق قوله “إذا كان هذا هو أقصى ما يمكنهم فعله، فماذا تبقى لديهم؟ لا عقوبات نجحت، ولا عمليات عسكرية أفلحت”.
وأشار إلى أن إيران صمدت أمام “أقصى العقوبات” التي فرضها الرئيس ترمب سابقاً، واقتصادها لم ينهر، وها هي اليوم تصمد أمام “أقصى الضربات”، ما يثبت أن مشروعها لم ينكسر.
كما اتهم المصدر الإدارة الأميركية والإسرائيلية بترويج “أكاذيب” حول نية طهران إنتاج سلاح نووي، وقال إن إيران لا تزال ضمن معاهدة حظر الانتشار النووي منذ عام 1968، وتطالب فقط بحقها في برنامج نووي سلمي، وهو موقف تؤيده قوى دولية مثل روسيا والصين.
وحذر من أن استمرار الضغط الأميركي والإسرائيلي على الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد يؤدي إلى “كوارث كبرى”، محملاً الوكالة مسؤولية أية تبعات مستقبلية بسبب “خضوعها للتواطؤ السياسي”.
وختم بالقول إن الموقف الإيراني اليوم أقوى مما كان عليه قبل بدء الحرب، وإن طهران استطاعت إيصال رسالتها “نحن لسنا الحلقة الأضعف، ولن نقبل الإملاءات تحت نيران القصف أو لغة العقوبات. وعلى من بدأ هذا الخيار العسكري أن يراجع حساباته قبل أن تتكرر النتائج، أو تتضاعف”.