حياة الجنوبيين تحت أعين المسيرات: “حج عم تشرب نسكافيه؟

حياة الجنوبيين تحت أعين المسيرات: “حج عم تشرب نسكافيه؟

الكاتب: محمد علوش | المصدر: المدن
2 تموز 2025
لم تعد مشاهد الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، أو ما يعرف بـ”الدرونات”، تثير الذعر في الجنوب اللبناني كما في السابق، لكنها بالتأكيد لا تمرّ مرور الكرام. فكل يوم تقريباً، تحلق هذه الدرونات فوق رؤوس المواطنين القريبين من الحدود مع فلسطين المحتلة، تتنقّل بين القرى، تُصوّر وتُراقب وتُدوّن كل حركة، وأحياناً، تنخفض إلى حدّ استفزاز الأهالي، تصورهم وتتحدث إليهم بلهجة عربية لبنانية واضحة، كأنها تُعيد للأذهان مشهد الأذونات الأمنية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي قبل العام 2000 على أبناء القرى المحتلة.

أذونات أمنية للعمل
في القرى الجنوبية، جنوب نهر الليطاني، تدخل المسيرات الإسرائيلية الصغيرة حياة الجنوبيين من دون استئذان، وتفرض عليهم نوعًا من الإجراءات التي باتوا يتعاملون معها، خصوصًا أولئك الذين يريدون العودة إلى أعمالهم ومصالحهم، كأمر واقع. ومن بين هؤلاء، مواطن جنوبي يسكن في كبرى بلدات القطاع الأوسط، ويعمل في رفع الردميات.

يروي الرجل، الذي يمتلك عدّة آليات بحكم عمله، عبر “المدن”، كيف تزوره “الطائرة الصغيرة” يوميًّا كلما وصل إلى مكان عمله، فتنخفض حتى حدود وجهه وتُصوّره، ثم تتوجّه نحو الآليات التي يمتلكها لتصويرها، فيفتح لها الأبواب، تُلقي نظرة ثم تغادر.

في بلدة أخرى، تعمّد صاحب ورشة النجارة أن يُعيد بناء ورشته بلا سقف، لكي لا تستهدفه الطائرات في حال شعرت بحركة في المكان دون أن تتمكن من معرفة ما يجري. وفي بلدة ثانية، لم يعد صاحب “البيك آب” يغطّي حمولته، لضمان أن تبقى مكشوفة أمام المسيرات. وفي بلدة جنوبية ثالثة، تتحدث إحدى المسيرات مع صاحب الكسّارة، طالبةً منه عدم استقبال أي أشخاص سواه في مكان العمل.
وفي بلدة حولا، انخفضت الدرون بينما كان رجل يجلس مع زوجته أمام منزله، فقالت له: “شو يا حج، عم تشرب نسكافيه؟
هذه المرحلة، بالنسبة إلى الجنوبيين، تُشبه مرحلة ما قبل التحرير، حين كان يتعيّن على كل صاحب عمل أو مصلحة أن يستحصل على أذونات أمنية من أجل ممارسة عمله في القرى المحتلة. أما اليوم، فقد تبدّل المشهد: لم تعد تلك الأذونات بحاجة إلى جهاز بشري إسرائيلي، كان يمثّله سابقًا جهاز جيش لحد الجنوبي، بل أصبحت تُستبدل بالتكنولوجيا التي تمكّن إسرائيل من أداء المهمة نفسها باستخدام “الدرونات”.

احتلال مقنع
اللافت في هذه الظاهرة أن إسرائيل لم تعد تكتفي بمراقبة الأهداف العسكرية في سماء لبنان، بل إنها وسّعت نشاطها ليشمل المدنيين، الأحياء السكنية، الطرقات، وحتى الحقول الزراعية. وأحياناً، تنخفض الدرونات لتوجّه رسائل صوتية بالعربية، تطلب من المواطنين “الابتعاد عن مناطق معينة”، أو تُحذّرهم من نشاطات معينة، أو حتى تتدخل في شؤونهم الخاصة وحتى ما يشربونه صباحاً، في مشهد يعيد إلى الأذهان مرحلة الاحتلال، ولكن هذه المرة بلا احتلال مباشر ، لذلك يمكن القول إن “العدو” يحتل جنوب الليطاني لا خمس نقاط حدودية فقط.

مصادر سياسية جنوبية ترى في هذا السلوك محاولة إسرائيلية لفرض نوع من “السيادة الجوية”، تتيح لها ليس المراقبة فقط، بل التأثير المعنوي والنفسي، والضغط اليومي على السكان، بهدف خلق واقع جديد عنوانه أن ليست هناك منطقة محرّرة بالكامل، بل أجواء خاضعة للسيطرة عليها، وتحت أنظار تل أبيب في كل لحظة، حتى في أدقّ التفاصيل.
المفارقة المؤسفة أن الأهالي باتوا يتعاملون مع هذه الدرونات كأنها أمر طبيعي، تحلق فوق البيوت والحقول على مدار الساعة، حتى أنها في بعض القرى “تجلس” على أسطح المنازل، أو النوافذ، رغم تساؤلهم عن دور الدولة اللبنانية، الغائبة عملياً عن المشهد، فهي لا تملك وسائل رصد حقيقية، ولا قدرة على منع الانتهاكات الجوية المتواصلة.

بنك أهداف جديد؟
إلى جانب الهدف الأمني والنفسي، ترى المصادر في حديث لـ”المدن” أن إسرائيل، من خلال هذه الانتهاكات المتكررة، تسعى إلى اختبار مدى جهوزية المقاومة، وفي الوقت نفسه، تعمل على بناء بنك أهداف ميداني جديد عبر التصوير والاستطلاع الدقيق. فهي تراقب كل التحركات وتستهدف ما تعتبره مشبوهًا، علمًا أن هذه المراقبة تمتد إلى مختلف المناطق اللبنانية، إذ يتعامل المواطنون، حتى في الضاحية الجنوبية، بحذر مع وجود المسيّرات في الأجواء، لا سيما أولئك الذين يعملون في مستودعات تحت الأرض، حيث يتعمّدون إظهار طبيعة أعمالهم وأنواع البضائع التي ينقلونها.

في ظل هذا الواقع، لا يبدو الجنوب مرتاحًا، بل متعايشًا بحذر مع هذه الظاهرة؛ فالأهالي يعيشون بين التعايش القسري، وذكريات الاحتلال، والرفض المطلق لهذا المشهد الذي يُعبّر عن شعور دائم بالتهديد النفسي. حتى إن بعض الأوساط الحزبية باتت تقول إن وقف الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية، الجوية منها خصوصًا، أهم من مسألة الانسحاب الإسرائيلي من النقاط الخمس المحتلة.