
رهام عابدين: قصة مزيفة تؤجج التوتر الطائفي في سوريا
وفي مطلع الأسبوع، اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي قصة “رهام عابدين”، وهي طبيبة سورية قيل أنها زارت مسؤولاً في مدينة جبلة الساحلية، فتعرضت للإهانة الطائفية ثم قتلت مع أطفالها برصاص مجهولين.
وانتشرت الرواية بسرعة رغم أنها قصة مزيفة بالكامل. ورافقتها صور “الضحية” المزعومة وأولادها، ومنشورات حزينة من حسابات تدعي أنها من أقارب لها مع صور وأسماء تجعل القارئ يصدق كل ما يراه من دون أن تفسح أي مجال للشك أو التوقف لحظة للتفكير.
والقصة المزيفة كانت مثالية ومكتملة الأركان، ففيها ضحية أنثى ومشهد إذلال ومسؤول متشدد وأطفال قتلوا وعدالة غائبة، بالاستناد إلى جو عام كانت فيه هذه القصص حاضرة طوال الأشهر الستة الماضية.
لكن الحقيقة لم تنتظر طويلاً، حيث تبيّن أن الصور مولدة بالذكاء الاصطناعي، والحسابات التي نشرت الرواية أنشئت قبل أيام فقط، فلا وجود للضحية ولا لعائلتها ولا للقصة التي صُنعت ببراعة لتنتشر وتحدث أثراً نفسياً بالغاً لأنها تعتمد بشكل مباشر على إثارة مشاعر الغضب التي توقف التفكير النقدي، وتجعل المتلقي يستجيب وفقاً للعاطفة.
واللافت أن صاحب الحساب الذي روّج القصة، عاد لاحقاً ليغير اسمه إلى اسم المذيع في التلفزيون السوري معاذ محارب منتحلاً شخصيته، ثم كتب منشوراً ادّعى فيه أنه اختلق القصة أمام المبعوث الأممي غير بيدرسون، لإثبات أن “معظم ما يُقال عن الانتهاكات في سوريا هو مجرد فبركات”! وهي قصة وهمية أخرى وضعت للنيل من مذيع والتشكيك أيضاً في مصداقيته، ووضعت بعداً آخر للفبركة بشكل احترافي مثير للدهشة!.
وفي الوقت ذاته، كان الشاب السوري عمر صباغ وهو معالج نفسي، يتعرض للاعتداء على يد عنصر أمن داخل فرع حكومي في دمشق، لأنه طالب فقط بحقه بالحصول على ورقة “لا حكم عليه” بعد خمس ساعات من الانتظار تحت الشمس الحارقة في سوريا التي فاقم فيها التغير المناخي الطقس الصحراوي الموجود أصلاً.
وبحسب المنشور الذي نشره صباغ في “فايسبوك”، تم اقتياده إلى داخل فرع الجمارك في إدارة الأمن الجنائي، بعد توجيه السلاح على صدره، وضرب على وجهه وأُجبر على الركوع ثم اقتيد إلى غرفة تحقيق، حيث أخبره الضابط المسؤول الذي يتم التعريف عنه بلقب ديني هو “الشيخ”: “نحن لا نحكم بالقانون، بل بشرع الله. كما ضربك تضربه”.
وعندما تساءل الشاب حول ماذا سيفعل “الشيخ” إذا قام بضرب رجل الأمن، قال له “الشيخ” سأقوم باعتقالك، فاعترض على ذلك قائلاً: “تحاسبون رجل الأمن وفقاً للشرع وتحاكموني وفقاً للقانون، هذا غير منطقي!”، ليتلقى سيلاً من الإهانات.
هذه القصة الحقيقية التي وثقها الشاب وتظهر تسلط القوى الأمنية على الأفراد في سوريا، كاتباً كامل تفاصيلها التي أكدها شهود كانوا حاضرين في الحادثة ولم تنكرها السلطات أصلاً، لم تلق نفس التأثير الذي لقته قصة الطبيبة عابدين، فهي لم تُرفق بصورة توثق تعرضه للضرب، ولم يعاد نشرها آلاف المرات من قبل أقارب وهميين، ولم تصبح ترينداً، ولم يكتب عنها كما كتب عن الطبيبة، لأنها لم تكن جذابة بقدر قصة حيكت ببراعة للتأثير في العواطف وتوليد الحقد والكراهية ومشاعر المظلومية، بخليط من الطائفية والعنف ضد الأطفال والنساء كذريعة قوية للتعاطف.
والحال أن القصص الكاذبة لا تكتب بعشوائية، بل تصاغ على أساس فهم دقيق لهشاشة المجتمعات الخارجة من الحروب، ففي لحظات ما بعد الصدمة يبحث الناس عن رمز للظلم وعن ضحية نموذجية وعن سردية ترضي عواطفهم، حتى لو لم تكن واقعية. ولهذا، تميل القصص المفبركة دائماً إلى مزيج خطير من العناصر التي تلامس الحواس والغرائز لا العقل، وتدفع الجمهور لتبني القصة ليس لأنها واقعية، بل لأنها مرضية نفسياً.
ويُعرف هذا التأثير في علم النفس الاجتماعي، بـ”الإنهاك المعرفي العاطفي”، حيث يتعرض الفرد لموجات متكررة من المعلومات المتضاربة، فيصاب تدريجياً بما يشبه التخدير، فلا يثق بما يقرأ ولا يصدّق ما يروى حتى حين تكون الحقيقة أمامه.
لكن الأثر الأخطر ليس على الفرد فقط، بل على المجتمع، فالقصص المفبركة التي تركز على الانقسام الطائفي تعيد ترسيخ الانقسام الأهلي، ولا تحرض ضد المعتدي كفرد بل ضد طائفته أو هويته. وهكذا، تستخدم الكذبة كوسيلة لإعادة إنتاج الكراهية وتعطيل المصالحة وتكريس منطق الحرب الأهلية المستترة.
ورغم أن صبّاغ تعرض للضرب فعلًا أمام شهود وتحدث بوضوح عن توجيه السلاح إلى صدره وإهانة كرامته البشرية، إلا أن قصته التي تذكر بتسلط النظام السوري البائد على الأفراد بنفس الأسلوب، لم تلقَ صدىً يقارن بما نالته القصة الوهمية. لأن الحقيقة في سوريا اليوم، لا تملك ما يكفي من التشويق.
والضحية الحقيقية غالباً ما تكون متعبة، وصامتة وواقعية، ولا تصرخ كثيراً ولا تبكي أمام الكاميرا، ولا تملك حسابات وهمية تدافع عنها. أما الضحية المنتجة، فهي ضحية ذات كفاءة عاطفية عالية تشكل صورة مثالية للتعاطف ومجردة من التعقيد وقابلة للترويج والتسويق.
وقصة الطبيبة الوهمية عابدين ليست حادثة فردية أو هامشية، حيث كشف تقرير موثق نشرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في وقت سابق من العام الجاري، بالتعاون مع جهات تحقيق مستقلة، عن وجود شبكات تضليل إعلامي منظم تعمل على استهداف الجمهور السوري من خارج البلاد، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وحسابات وهمية، وتدوير مقاطع قديمة لتأجيج الانقسام وبث الذعر وإضعاف الثقة بأي سردية توثق الواقع كما هو.
وأشار التقرير حينها إلى أن 60% من المنشورات المضللة تأتي من خارج سوريا، وتبث من حسابات مبرمجة وتخدم روايات سياسية متناقضة، لكنها تتفق جميعاً على تفريغ الحقيقة من قيمتها، وإنتاج بديل مشبع بالعاطفة والطائفية والانقسام، وهو ما يلاحظ اليوم في قصة الطبيبة عابدين.
وتترك القصص الوهمية أثراً مباشراً على الطريقة التي بات يستقبل بها أي خبر، وحدث ذلك في قضايا خطف النساء السوريات خصوصاً في الساحل السوري، حيث انتشرت في الفترة الأخيرة روايات عن اختطاف نساء علويات وبيعهن في “أسواق للنخاسة”، مع سرديات درامية مصحوبة بصور مجهولة المصدر، أو بأسماء لا وجود لها في أي سجل رسمي. كما ظهرت قصص لسيدات قيل إنهن مختفيات، ثم تبين لاحقأً أنهن لم يكن مخطوفات أصلاً.
ورغم أن تقارير حقوقية موثوقة وثقت وجود حالات اختطاف فعلية لنساء في مناطق متفرقة، إلا أن الكثافة العالية للقصص المفبركة، التي صيغت بحرفية، جعلتها تلقى صدىً وانتشاراً أكبر. وعندما تبيّن كذبها، لم يتراجع الناس عن تصديقها فقط، بل أصبحوا يشككون في أصل الظاهرة، وكأن الاختطاف نفسه لم يعد قائماً، وهذا بحد ذاته أخطر آثار التضليل، فهو لا ينفي الحقيقة فقط، بل يعطل قدرتنا على تصديقها عندما تحدث فعلاً، وحتى تكذيبها بأثر رجعي على الحوادث القديمة ذات الصلة.
ولا يفهم نشر القصص الكاذبة كمجرد فعل تضليلي، بل كاستجابة نفسية واجتماعية وسياسية معقدة في واقع مضطرب تغيب فيه العدالة وتنهار الثقة بالمؤسسات، حيث يلجأ البعض إلى تبنّي روايات مفبركة تمنحهم شعوراً بالسيطرة أو الانتماء، وتلبّي انحيازاتهم المسبقة، وتستخدم الكذبة هنا كوسيلة للتنفيس أو للانتقام الرمزي أو لبناء هوية جماعية مضادة، ومع تكرار هذا النمط، يبدأ الجمهور بفقدان القدرة على التمييز بين الحقيقي والمختلق، وتفقد الحكايات الصادقة أثرها، ليصبح الشك هو القاعدة، والحقيقة هي ما لا يُصدَّق.