
لماذا يتعمّد بري إهانة رئاسة الحكومة؟
علاوة على استبداده البرلماني وابتداعه صلاحيات فوق العادة لرئاسته، من الملاحظ أن الرئيس نبيه بري يتعمد إهانة مقام رئاسة الحكومة بشكل فجّ، بدأ يرتسم مذْ كان صديقه نجيب ميقاتي رئيساً لحكومة يمتلك مع شريكه “حزب الله” نفوذًا واسعًا على قرارها، ولا سيما إبان موقعة “تقديم الساعة” الشهيرة، والتي ظهر فيها ميقاتي كأنه “مُريد” في حضرة “شيخ الدولة”، يؤمر فيطيع. إلا أنه اتخذ طابعاً أكثر عداوة مع الحكومة الحالية.
ناهيكم عن لحظة التكليف “الموجعة”، استفز “ناظر البرلمان” إنهاء الرئيس سلام وصايته غير الدستورية على قرار السراي الحكومي، من خلال جعل الدستور حاكمًا للعلاقة بين الرئاستين الثانية والثالثة، وضاعف من الشعور المتنامي لديه عقب توقيع “اتفاق الإذعان” نيابة عن “حزب الله”، بدنو لحظة طيّ حقبة مجيدة بدأت مع “انتفاضة 6 شباط 1984”.
لذا، راح بري يظهر قدرًا هائلًا من السلبية والمعاندة لإثبات أنه ما زال يتمتع بفائض قوة ضمن النظام، معززًا بالتفاف أركان السلطة التقليديين، وحلفائهم وأنصارهم ضمن البرلمان وإدارات الدولة خلف عباءته لحماية مواقعهم ونفوذهم المتهاوي من مقصلة إصلاح الوافدين الجدد.
من خلال هذا المسار القلق يمكن فهم افتعال “العلوّ” على رئاسة الحكومة، وضخ تسريبات ومناخات إعلامية لتحوير أهداف زيارات الرئيس سلام إلى “عين التينة”، تتلاقى مع حملة كبيرة تستهدف الأخير لإظهاره ضعيفًا مغلول اليد. فمرة يُظهره كأنه أتى لطلب الصفح عن زلة لسان إعلامية، فيما الهدف فتح دورة استثنائية للبرلمان.
ومرة أخرى يظهره كأنه آتٍ للوقوف على خاطره في التعيينات، وإبلاغه رغبة سعودية – أميركية بتعديل قانون الانتخاب، كي يقترع المنتشرون في دوائر نفوسهم كأنه مجرد رسول، مع تقصّد الظهور بوجه متلبّد بالغضب في الصور الرسمية للقاء، فيما الهدف تسريع خطوات صياغة الورقة التي اتفقت الرئاسات الثلاث على إعدادها كردٍّ خطي موحّد يُقدّم إلى الموفد الأميركي توم برّاك، للإجابة على الأسئلة التي طرحها في زيارته السابقة.
يدرك الرئيس سلام المفاعيل السلبية لأحابيل بري، ولا سيما أنها تتصل بمساعٍ سنية لم تتوقف، ميقاتية وحريرية، لترويج صورة رئيس الحكومة الضعيف، ومنها توظيف مواقف مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان الرافضة تهميش السنة واستضعافهم للتصويب عليه زورًا وبهتانًا، علاوة على تكرار اتهامه بنقص في سنيته لأنه لم يقع في فخ الاحتماء بطائفته، بل أظهر قدراً عالياً من الحس الوطني يتسق مع الإرث الدولتي السني التاريخي.
لسان حال النهج الموزون للرئيس سلام يقول “أنا مع المفتي دريان”، لأنه يرفض تهميش السنة كما يرفض تهميش أي مكوّن آخر بمعزل عن ظروفه الحالية، لقناعته الراسخة بأن قيامة الدولة لا يمكن أن تتحقق بتوازن مكسور. وعِوَضَ أن تؤازره النخب السنية في منازلته القانونية مع افتئات بعض الأجهزة الأمنية في استخدام “وثائق الاتصال” غير القانونية كسلاح ترهيب وإخضاع نجده تُرِك وحيداً. والأمر نفسه يسري على مسألة استرجاع الدولة قرار الحرب والسلم.
يحسب للرئيس سلام روحية رجال الدولة التي تدفعه للترفّع عن الصغائر، والمبادرة لتحقيق ما تعهد به في البيان الوزاري، وخصوصاً بند بسط سلطة الدولة وحدها بلا شركاء على كافة الأراضي اللبنانية. فهو كان يدفع منذ البداية نحو عقد جلسة حكومية لإقرار خارطة طريق واضحة لجمع سلاح “حزب الله” تلزم الأخير والدولة في آن، وتجسد إعادة القرار إلى موطنه الأصلي، وتظهر عن مدى التزامه أمام الدول العربية والمجتمع الدولي. لكنه أبدى مرونة حيال الحوار الثنائي بين رئاسة الجمهورية والحزب الإلهي على قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”.
ومع تصاعد الضغط الأميركي لاتخاذ قرار رسمي جامع في مجلس الوزراء بسحب سلاح “حزب الله” وتفرعاته الفلسطينية واللبنانية خلال مدة زمنية محددة وقصيرة، يقترب الرئيس سلام من دخول التاريخ من أوسع أبوابه كرئيس حكومة أطلقت عملية تحرير لبنان من هيمنة السلاح على الحياة السياسية، واستكمال تطبيق بنود “اتفاق الطائف” في هذا الشأن. على أن يقبل العزاء في “الميلينيوم” و”القنطاري” ومواقع تحدد لاحقاً.
في صحائف التاريخ مكان محفوظ لرجال الدولة الحقيقيين الذين يتخذون قرارات مفصلية تغير مصائر شعوبهم نحو الأفضل، أما من يقضون مدداً طويلة على العرش بلا إنجاز يذكر فيطوى ذكرهم ويصيرون “نسيًا منسيًا”.