ذكرى حبيب صادق: جرادي خَرَّبَ.. وسيمون كرم قَاوَمَ

ذكرى حبيب صادق: جرادي خَرَّبَ.. وسيمون كرم قَاوَمَ

الكاتب: محمد بركات | المصدر: اساس ميديا
5 تموز 2025

ليست المرّة الأولى التي يحاول أحد ألوية “الأهالي” مصادرة ذاكرة الجنوب. ولن تكون الأخيرة. هذه المرّة تقاطر بعض المدسوسين إلى قاعة “بيار أبو خاطر” في الجامعة اليسوعية، لمحاولة السطو على الذكرى الثانية لرحيل المفكّر والمناضل الشيعي المستقلّ حبيب صادق… جاؤوا وانتظروا. وحين بدأ السفير سيمون كرم كلمته الرشيقة والبلاغيّة والأنيقة، حاولوا التشويش والتخريب. لكنّهم خرجوا فرادى، وأكمل المئات استمتاعهم بالكلمات التي تشبه حبيب صادق في عمقها ودقّتها وشجاعتها.

ما فعله بعض “الأهالي” المدسوسون في الجامعة اليسوعية شكّل ذروة جديدة في الوقاحة السياسيّة المعلنة. حين أُرسِل بعض الموالين والمشاغبين، يتقدّمهم النائب إلياس جرادي، لتخريب مناسبة الاحتفاء بالذكرى الثانية لرحيل حبيب صادق. كأنّهم جاؤوا عن سابق تصوّر وتصميم ليعلنوا: “هذا الجنوب لنا، لا لأحد غيرنا. وصوت حبيب صادق، مكانه القمع… لا التكريم”.

أكثر من 500 شخص، من نخبة المثقّفين والسياسيّين والفنّانين، حضروا ليكرّموا رجلاً لم يُساوم، ولم يبِع استقلاله الفكري على طاولة أيّ زعيم أو سلاح أو محور.

فنّانون ونوّاب تغييريّون وثوريّون ومناضلون جاؤوا ليتذكّروا رجلاً صوته كان أوسع من الساحات، وضميره لم يُؤجَّر ولا وُضع في خدمة راية أو وصاية. لكنّ حفلة التكريم لم تُعجب الوصاة، فقرّروا نسفها، وتحويلها إلى مشهد من مشاهد الترهيب الميداني، الذي بات سلاحهم الأوحد كلّما واجهوا مرآة الحقيقة.

ماذا قالت كلمة سيمون كرم؟

السفير السابق سيمون كرم وقف وقال كلمةً لا تُنسى. لم يُحرّض، لم يشتم، لم يهتف. تحدّث فقط. وبهذا الفعل البسيط، ارتكب، في نظر “الحزب”، جريمة. جريمته أنّه قال ما كان يقوله حبيب صادق، وأنّه وضع إصبعه على الجرح الجنوبيّ. إذ قال: “الذين أذعنوا لوقف إطلاق نار من طرف واحد مع إسرائيل، يطلقون ناراً سياسيّة وأمنيّة كثيفة على الداخل، ساعين إلى بعث ما عاشوه غلبة، سحابة سنوات قصيرة عجاف، وأدّى بهم وبالبلاد وأهلها الى هذا الخراب العميم”.

أضاف السفير السابق: “يهاجمون الدولة لاعتمادها الخيار الدبلوماسي، وهو الوحيد المتاح بعد النكبة… والجيش بحجّة أنّه عاجز عن حماية البلاد والناس.. والقوّات الدوليّة لسعيها إلى تنفيذ القرارات الدولية… وسائر اللبنانيين إذا قالوا لهم: كفى”.

وتابع: “جميع هؤلاء خونة ومتآمرون. وبقايا السلاح وبقايا العسكر وبقايا الأمن وبقايا الإعلام مستنفرون لتأديبهم وإخضاعهم”.

لماذا غادر إلياس جرادي؟

هنا استنفر بعض هذه “البقايا”. وهذا كلام لم يتحمّله نائب “تغييري” تحوّل إلى ظِلّ حزبيّ مثل إلياس جرادي، فاختار الخروج من القاعة لا بصفته نائباً عن الناس، بل بصفته أحد حرّاس الهيبة المزعومة.

لم يغادر جرادي لأنّ كرم أساء، بل لأنّه لم يملك شجاعة الردّ. فخرج غاضباً لأنّ الجمهور لم يصفّق له، ولأنّه فهِمَ أنّ الغطاء التغييري لا يمنحه حصانة في حضرة التاريخ.

لكنّ المسألة لا تقف عند جرادي. ما جرى في تلك القاعة هو تعبير فجّ عن أزمة عميقة يعيشها “الحزب” في الجنوب: أزمة الصوت الحرّ الذي لا يمكن كتمه، مهما علت أصوات الصراخ والشتائم والبلطجة. إنّها المعركة المتواصلة بين ثقافة الحياة وثقافة الهيمنة، بين مَن يُكرِّمون الراحلين بكرامة، ومَن لا يحتملون حتّى موت خصومهم الرمزيّ.

محاولة “اغتيال” جديدة لـ”شجاعة” صادق

لقد أرادوا لذكرى حبيب صادق أن تمرّ بصمت، كما أرادوا له أن يرحل مهمَّشاً، كما فعلوا معه في حياته. فهو الذي رُفِض من منظومتهم لأنّه لم يُبايِع، ولأنّه بقي خارج ماكينة الطاعة. لكن على الرغم من محاولات الطمس، بقي اسمه حيّاً في ذاكرة ناسه، وفي الجنوب الذي كان يحلم به.

لم يكن يقرأ سيمون كرم خطاباً بل كان يعلن بياناً وطنيّاً، قال فيه بوضوح إنّ السلاح الذي لا يخضع لسلطة الدولة، هو امتداد للاحتلال. كلمة كلّفت كثيرين أثماناً في هذا البلد، لكنّها تظلّ حجر الأساس لأيّ مشروع إنقاذيّ. أراد كرم القول إنّ الجنوب ليس ملكاً لأحد، وإنّ المقاومة الحقيقية تبدأ من مقاومة التبعية والاستبداد، لا من تكرار الشعارات.

وأجمل ما قاله كرم عن “الحزب”: “صبرَ على إسرائيل التي أرْدَت إلى الآن ما يفوق مئتي ناشط منذ أوقفوا نارهم، ولا صبر على الداخل، رئاسةً وحكومةً وجيشاً ومجتمعاً مدنيّاً ومراكز ثقافية وجامعات وجماعات ومدناً وبلداتٍ… بما فيها تلك التي فتحت بيوتها وقلوبها للنازحين في محنتهم”. ثمّ كلمة جارحة مع كلّ إطلالة، آخرها: “باقين على قلوبكم”.

محاولات مستمرّة لإسكات كرم، قابلها الجمهور بالتصفيق له للتشويش على المخرّبين. ولإحباط هجوم على هذه الذكرى.

حبيب صادق لم يكن شخصاً فقط، بل كان ذاكرة. كان ضميراً منسيّاً أراد البعض شطبه من الرواية، لأنّه ببساطة يُربكهم. لأنّه يُذكّرهم بأنّ الجنوب ليس هم. وبأنّه حصل على 70 ألف صوت في آخر انتخابات خاضها، بوجه الثنائي الذي حصل على 120 ألفاً. وأنّ جبل عامل ليس مقفلاً. وأنّ شيعة لبنان، ليسوا وحدة حزبيّة، بل شعب فيه تنوّع، وفيه معارضون، وفيه مثقّفون لا يهابون.

في زمنٍ تُباع فيه الأصوات وتُشترى، تظلّ كلمات مثل كلمات كرم، ومناسبات مثل ذكرى حبيب صادق، لحظات مقاومة حقيقية. مقاومة من نوعٍ آخر: بالكلمة لا بالسلاح. بالحقيقة لا بالبروباغندا. بالموقف لا بالتبعيّة.

وهذا ما يُرعب “الحزب” حقّاً.