في جلباب رياض سلامة… الدولة تستعيد سياسة الاقتراض وتثبيت الليرة

في جلباب رياض سلامة… الدولة تستعيد سياسة الاقتراض وتثبيت الليرة

الكاتب: عماد الشدياق | المصدر: نداء الوطن
8 تموز 2025

“وذكّر إن نفعت الذكرى”… ما سيرد أدناه قد لا يكون جديداً لكنّ العودة إليه، بين الحين والآخر، بات فرضاً واجباً. خصوصاً إذا تسنى للمواطن متابعة حجم التشويه الذي يعتمده البعض في مقاربة الأزمة الاقتصادية في لبنان…

منذ ست سنوات تقريبًا انفجرت الأزمة المالية في لبنان، لكنّها لم تأتِ من فراغ ولا سقطت على رؤوس اللبنانيين فجأة. على مدى عقود، كانت الحكومات المتعاقبة تُمعن في الإنفاق بلا خطط أو رؤى، معتمدة على أموال المودعين في المصارف، وكأنها “صندوق خاص” يُغطّي عجزها المتزايد عامًا بعد عام.

اللافت أنّه برغم مرور ثلاث حكومات وتعاقب 3 حكام لمصرف لبنان منذ 2019، لم تبصر النور أيّ خطوة إصلاحية جديّة، باستثناء بعض القوانين التمهيدية التي بقيت حبراً على ورق، تُضاف إليها حفنة من التعاميم الترقيعية، التي لم ترقَ إلى معالجة أزمة بهذا الحجم والتشعب.

لا تزال البلاد، اليوم، تعيش في ظلّ إرث سياسات الحاكم رياض سلامة المرمي بالسجن لتهم وأسباب ما زالت حتى اللحظة غير واضحة من المنظور القانوني والقضائي الصرف. تعيش البلاد في كنف جهد سلامة النقدي، خصوصًا في ظلّ سياسة فرض استقرار سعر الصرف، أو تثبيته بحسبما يروق وصفه للبعض. تثبيت فرضته الحكومات منذ التسعينيات.. وهي السياسة ذاتها التي ما زالت تستخدم بحكم الأمر الواقع حتى الآن، لولا ارتفاع إحتياطيات مصرف لبنان بالدولار مؤخرًا، لما أمكن زيادة حجم السحوبات الشهرية للمودعين الذين يواجهون منذ سنوات قيودًا صارمة على أموالهم.

هذه الوقائع تؤكد أنّ الأزمة لم تكن نتيجة عامل وحيد، أو شخص بمفرده. بل هي نتيجة طبيعية لنهج سلطة سياسية استمر لعقود في إنفاق الأموال بشكل عشوائي دون إصلاحات ولا مساءلة، مستندة إلى أموال المودعين كملاذ أخير لتمويل سياساتها الشعبوية.

إنّ تحميل المسؤولية لرياض سلامة وحده، أو للمصارف التي وُضعت في موقع المُقرض القسري للحكومات، أقل ما يقاله فيه إنّه: تمييع للحقيقة. فالمسؤولية لا يمكن حصرها بشخص أو قطاع. سلامة لم يكن ليتمكّن من المضي في سياسته النقدية لولا موافقة وتواطؤ الحكومات المتعاقبة ومجالس النواب التي لم تبادر إلى الإصلاح، بل أقرّت موازنات غير متوازنة وتجاهلت كل إشارات التحذير. المصارف بدورها لم تخرج على القانون ولم يثبت أنّها انتهكته حتى لحظة وقوع الأزمة، بل كانت جزءًا من المنظومة المالية التي وضعت أموال المودعين في خدمة الدولة عندما طلبت الأخيرة تمويل عجزها المتفاقم.

اليوم، وبعد مرور سنوات على الانهيار، تعود السلطة السياسية، بوعي أو من دونه، إلى النسق ذاته الذي أدى إلى الانفجار: الحديث عن قروض دولية جديدة لإنقاذ الوضع، والاتجاه نحو تصحيح الأجور وربما إعادة إحياء سلسلة رتب ورواتب من دون رؤية واضحة لكيفية تأمين الإيرادات المستدامة. كل ذلك فيما تغيب الإصلاحات البنيوية التي التزم لبنان بها مرارًا منذ مؤتمر باريس 1 وحتى مؤتمر سيدر، من دون تنفيذ فعلي أو نية حقيقية للقيام بها. والنتيجة أنّ البلاد تسير نحو حلقة مفرغة قد تؤدي إلى انفجار جديد إذا ما استمر التعاطي مع الأزمة بذهنية الإنفاق السياسي والشعبوي عوضًا عن التخطيط المالي الرشيد.

إن القول إنّ المصارف كانت “خشبة خلاص” للسلطة ووسيلة لرفاهية الشعب اللبناني لثلاثة عقود ليس مبالغة. فمن خلالها تمكّنت الحكومات من تأمين دولارات طازجة لتمويل احتياجاتها وخططها من دون أن تتحمل عبء الإصلاح أو مسؤولية تأمين موارد حقيقية للدولة. لكن هذا الدور لم يكن ليسمح بتأجيل الأزمة إلى ما لا نهاية، خصوصًا مع تراكم العجز المالي والميزان التجاري السلبي والسياسات الاقتصادية غير المنتجة، ما جعل الانهيار حتميًا بمجرد فقدان الثقة بالنظام المالي.

الأزمة التي يرزح تحتها لبنان اليوم ليست مالية فحسب، بل هي في جوهرها أزمة نظام سياسي وإداري عجز عن الالتزام بالإصلاحات المطلوبة على مدى سنوات. ولعل ما يثير الاستغراب أنّ أطرافًا في الداخل لا تزال ترفض الاعتراف بطبيعة الأزمة النظامية، وتحاول تصويرها وكأنها صراع بين قطاع مصرفي جشع وقطاع عام مظلوم، فيما الحقيقة أنّ السلطة السياسية بمختلف أطيافها كانت المستفيد الأكبر من النظام المالي القائم، سواء عبر تمويل عجزها أو شراء ولاءات سياسية في الداخل.

إنّ تنفيذ الإصلاحات المطلوبة كاملة، بشفافية وجدية، وحده الكفيل بكشف مدى حاجة لبنان الفعلية إلى برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي أو غيره من الجهات المانحة. أما المراوحة في مكانها، والاكتفاء بخطابات وتصريحات عن محاربة الفساد من دون إجراءات ملموسة، فلن تعني سوى تمديد الأزمة وربما توسيعها لتطال أجيالًا جديدة من اللبنانيين.