
الفيحاء لا سورية ولا تركية ولا سريلانكية… طرابلس لبنانية وحسابات “اللاعبين” خاسرة
من جديدٍ يتقدّم اسم طرابلس في الحسابات “الضيّقة” و”الواسعة”. خبرٌ غريبٌ -غير مثبتٍ- نزل على البعض مثل الصاعقة: طرابلس سورية مقابل جولان إسرائيلية. من قرّر ذلك؟ من يحقّ له أن يقرّر ذلك؟ وهل هناك من استفتى طرابلس والطرابلسيين عن هويّتهم ونواياهم ومستقبلهم؟ هو خبرٌ خبيثٌ، من الممكن طيّه في درجٍ عميقٍ تحت عنوان: اللعب – العبث السياسيّ الطائفيّ. لكن، لماذا في كلّ مرّةٍ هناك من يستسهل -نظريًّا- تغيير وجه عاصمة شمال لبنان. فلنسمع صوت طرابلس قبل الحكم عليها في موضوعٍ فيه من المكر الكثير:
أصوات النشاز، التي حلا لها مضمون الخبر، راحت تُسهب في الكلام عن سوريّة طرابلس، و”لبنان الكذبة”، والتاريخ العميق والجغرافيا المُصطنعة. هي أصواتٌ استغلّت “الخبر” لتكشف عن أحلامٍ تراودها من زمان. فلنتجاوز أصل الخبر ولْنَغُصّ في أصولٍ وأصوليّات مدينة الفيحاء. لا يخفى على أحدٍ أنّ طرابلس ليست بخير. صحيحٌ أنّها نُعتت ذات أوانٍ باسم “طرابلس الشام”، لكنّها باتت منذ أكثر من قرنٍ طرابلس لبنان. هي تبعد عن بيروت نحو ثمانين كيلومترًا لكنّها حالةٌ في ذاتها. إنّها تضمّ أثرى أثرياء لبنان لكنّها فقيرةٌ بائسةٌ ضائعةٌ بين حبّ الوطن والبحث عن سبل الحياة.
لهذا، يقول الباحث في تاريخ طرابلس والمجاز في علم الأنساب فؤاد طرابلسي: “إنّ الكلام عن “سَوْرَنَةِ” طرابلس ليس ذا قيمة. هو مجرّد كلامٍ بلا أساسٍ قانونيٍّ ولا عقلانيٍّ إلّا -وإلّا أداة استثناء- إذا كان هناك قرارٌ بتلزيم لبنان -كلّ لبنان- سياسيًّا إلى سوريا. وهذه هيمنةٌ لا ضمّ. وهذا -اليوم- مُستبعَدٌ. فسوريا بالكاد قادرةٌ اليوم على إدارة محافظاتها”.
لكن، ماذا عن الحالة السلفيّة المؤيّدة؟ أليست طرابلس بحكم واقعها البائس ووجود سلفيين فيها خاصرةً رخوةً للبنان؟ يُجيب طرابلسي: “ما أراه اليوم أنّ هناك من يريد “جسّ النبض”، لكنّ الشعب، من خلال تفاعله مع الخبر، ليس مع الضمّ إلى سوريا أو حتّى تركيا على الرّغم من أنّها ذات غالبيةٍ سنّية. فالسنّي الطرابلسيّ -اللبنانيّ غير السنّيّ- السوري، كما أنّ لا تأييد من كلّ الحركات الدينية في طرابلس لأيّ اتفاقٍ قد يُطرَح في هذا الإطار”.
هناك، في طرابلس، يُحكى عن نوايا خبيثةٍ يُراد منها “أذى” نظام أحمد الشرع من خلال تأليب الداخل عليه. في ظلّ ذلك، هناك امتعاضٌ داخليٌّ من أنّ رسالة التهنئة التي وجّهها رئيس الجمهورية جوزاف عون إلى أحمد الشّرع لم يردّ الأخير عليها. كما أنّ رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام زار دمشق، لكنّ سوريا لم تُرسل رئيس وزرائها إلى لبنان -أقلّه حتّى الآن. هذا كلّه يراقبه الطرابلسيون الذين يشعرون بأنّ انتماءهم لا ولن يكون إلّا إلى لبنان الدولة. صحيحٌ أنّ لهؤلاء نزعةً عروبيةً منذ بايعوا الملك فيصل “لكن يوم أتى رياض الصلح اتّفقوا جميعًا على لبنان وطنٍ نهائيّ. لهذا لا يجوز الحكم على طائفةٍ كاملةٍ في لبنان انطلاقًا من أحداثٍ تاريخيّةٍ زمنيّةٍ بعيدة”.
في هذا الإطار، يشرح طرابلسي: “لا يجوز الحكم اليوم على الطائفة السنّية من خلال “قال ويُقال”. فهل استُفتي أحدٌ من الطرابلسيين عمّا يريدون؟ هل يقبلون الانضمام إلى سوريا أو تركيا؟ هل يقبلون بحدودٍ جديدةٍ مع زغرتا مثلًا؟ التعليقات الطرابلسية -إذا أُخذت كمدخلٍ استفتائيٍّ- تشير إلى أنّ 90 في المئة من هؤلاء يرفضون أيّ كلامٍ عن ضمٍّ وفرز. المسيحيون، من جهتهم، يُبصِمون بالعشرة على أنّ الضمّ مستحيل. ومثلهم الشيعة، الذين تتواجد غالبيتهم في القرى السبع في الكورة، يرفضون ذلك. ومثلهم أيضًا وأيضًا من تشيّعوا من الطرابلسيين السنّة لأسبابٍ متعلّقةٍ بالميراث. وهذا ما تجزم به الاستفتاءات التي جرت سابقًا عبر مفاتيح المدينة، وأعيانها والعلماء، وهناك محاضِر تجزم بذلك. وبالتالي، أيّ اتفاقٍ يقضي بالعكس هو بمثابة احتلالٍ للمدينة. فبأيّ حقٍّ يُحكى عن تفاوضٍ سوريٍّ -إسرائيليٍّ على طرابلس، في ظلّ وجود دولة لبنان. ما خصّ هؤلاء بنا؟”. هذا سؤالٌ طرحه ابن طرابلس الباحث فؤاد طرابلسي.
قبل الكلام عن “سورنة” طرابلس، صدر كلامٌ أيضًا عن “تركنة” (من تركيا) المدينة، ألا تتذكّرون يوم أطلّ نائب طرابلس فيصل كرامي متحدثًا عن أنّ ثلث أهالي طرابلس جذورهم تركية؟ يومها شعر من شعر بأنّ تلاعبًا يحصل في مدينة الفيحاء كما أحجار الدومينو. فماذا عن هكذا كلامٍ في منطوق الباحث في تاريخ طرابلس؟ يُجيب فؤاد طرابلسي: “ذات وقتٍ سرى الكلام عن أنّ تركيا تمنح مواطني طرابلس السنّة هويات، واللبنانيّ بطبعه يحبّ الحصول على جنسيةٍ ثانيةٍ. الجنسية الثانية تُشكّل اطمئنانًا بالنسبة إلى الكثيرين. تُمكنهم من تعليم أولادهم في الجامعة الأميركية في إسطنبول مجانًا، على سبيل المثال لا الحصر. لكن، لهؤلاء، أكرّر، يبقى لبنان وطنًا نهائيًّا لهم. قد يشعر البعض بأنّ تركيا وسوريا امتدادان حضاريّان، لكن دولتهم تبقى لبنان”.
في منطوق بعض السوريين، لبنان ولايةٌ سوريّة. إنّهم يتحدّثون عن سوريا الطبيعية، لكن، والكلام إلى الباحث طرابلسي، يوم أتى الباحث التركي الدكتور يحيى غول مع فريق عمل -وكنتُ معهم- اكتشف مستنداتٍ من القرن السابع عشر تؤكّد أنّ ولاية طرابلس وصلت ذات يومٍ إلى حدود الأردن. طرابلس كانت ولايةً قائمةً بذاتها، وأيّ كلامٍ عن نسبها إلى سوريا هراء.
هناك من سيعترض على هذا الكلام. الشيخ محمد إبراهيم، مدير المكتب الإعلامي لـ”حزب التحرير”، سمع بالخبر بدوره ويقول عنه: “هذا مجرّد حكيٍ غير جدّيٍّ ولم يتبنّه أحدٌ رسميًّا”. ويستطرد: “مع العلم أنّنا إذا نظرنا إلى العالم كيف يتّحد ويتكتّل، وكيف أنّ دونالد ترامب يريد ضمّ كندا إلى ولاياته الواحدة والخمسين، علينا أن نعمل على حلّ الحدود ليس بيننا وبين سوريا فحسب، بل مع كلّ الحدود العربية المصطنعة، التي هي من إفرازات سايكس – بيكو. فلتكن كلّ الدول العربية واحدة تحكمها الشريعة الإسلامية”. لكن، ألا يبالغ الشيخ؟ ماذا عن المسيحيين والشيعة، هل يقبلون؟ يُجيب بسؤال: “يوم طبّقوا اتفاق سايكس – بيكو، هل سألنا أحد؟ هل استُشِرنا؟ في كتب التاريخ، في المرحلة الثانوية، يدرسون اليوم عن موقف أهل لبنان من ولادة لبنان الكبير. في كتاب التاريخ، في كتاب تاريخ دولة لبنان، يدرسون أنّ أهل لبنان انقسموا رأيًا بين أهل الولاية وأهل الساحل. يومها طالب المسلمون بالانضمام إلى الدول العربية، أمّا أهل المتصرّفية فطالبوا بدولةٍ مستقلّةٍ. لكنّ اتفاقية سايكس – بيكو فرضت ما أرادته”.
هل نفهم من كلام محمد إبراهيم أنّ إرادة بقيّة الطوائف لن يكون لها محلّ في الإعراب في قاموسه؟ يُجيب: “إذا قلنا لأيّ جماعةٍ إنّهم سيعيشون في دولةٍ تؤمّن لهم الرعاية والكرامة والطعام، ترفض؟”. ويستطرد: “إذا أجروا استفتاءً اليوم في طرابلس، فإنّ 80 في المئة من السنّة سيطالبون بالانضمام إلى أيّ دولةٍ كانت، حتّى لو كانت سريلانكا. الظلم الواقع علينا كبير. مرفأ طرابلس لم يُوَسَّع. لا مطار في طرابلس. المعرض لم يُوسَّع. وهناك ضغطٌ كبيرٌ على الناس. والحرمان يدفع الناس إلى البحث عن حلول”.
فلنختصر الموضوع: سلفيّو طرابلس يريدون الانضمام إلى سوريا؟ يُجيب إبراهيم: “نحن مع إلغاء الحدود المصطنعة، لكن ما نراه اليوم أنّ النظام السوري الجديد، الذي يُفترض أنّه يشبهنا، لم يُطبّق المفاهيم والأحكام التي كان يُنادي بها. كما تناول هذا النظام مصالح السوريين أنفسهم. لو كان أحمد الشرع جدّيًّا، لكان أخرج المساجين الإسلاميين من السجون اللبنانية في 24 ساعة. نظام سوريا الجديد يسير في النظام العالميّ الجديد ويعمل لإرضاء الإدارة الأميركية”.
“مش ظابطة”. من هم “مع”، ومن هم “ضدّ” الضمّ، يؤكّدون أنّ الخبر لا محلّ له في الإعراب. لكن، لماذا في كلّ مرّة يخرج من يتحدّث عن هويّة طرابلس؟ هل مدينة الشَّمْس لقمة سائغة في منطوق البعض؟ ما هو ثابتٌ اليوم أنّ “خلايا” تحاول العبث بشؤون وشجون المدينة “الطّيّعة” شكلًا للتجاذبات. ثمّة من “يلعب” اليوم في الوقت الضائع. فلنأخذ مثلًا “الأحباش” -أي “جمعية المشاريع الخيريّة الإسلامية”- التي يوم حُكي فيها عن “تركية” طرابلس نشطت في ذاك الاتجاه، مع العلم أنّها تُعادي الإخوان المسلمين، وبينها وبين حزب الله علاقات وطيدة، أمورٌ غريبةٌ عجيبةٌ وتناقضاتٌ قد لا تخطر في بال، تسمعون عن الحابل والنابل؟ هنا، في طرابلس يختلط الحابل بالنابل.
مسؤولٌ في دائرة الأوقاف الإسلامية يقول: “لا أحد يُنكر أنّ طرابلس طوال عمرها عاطفتها نحو القضايا الإسلامية. إنّها تبعيّةٌ وجدانيّةٌ، أمّا التبعيّة الواقعيّة فهي للدولة اللبنانية. انزلي إلى طرابلس، فترين أنّ الجميع يلتزمون بالقوانين، باستثناء التبانة. الطرابلسيون متعاونون، أمّا المتطرّفون فلا دين لهم”.
الحديث طويلٌ عن طرابلس. لكن، الأكيد أنّ السلفيين، إذا كانوا حقًّا مع الانضمام إلى سوريا أو تركيا أو حتّى سريلانكا، فهم لم يتمكّنوا من انتخاب مختارٍ في الانتخابات الأخيرة. فليتكلّموا ما شاؤوا. طرابلس لبنانية… لبنانية… لبنانية، حتّى ولو كانت بائسةً فقيرةً وتحتاج إلى دولة -إلى الدولة اللبنانية- من زمانٍ وزمان.