هكذا تربعت إسرائيل على «العرش الجوي» من بيروت إلى طهران

هكذا تربعت إسرائيل على «العرش الجوي» من بيروت إلى طهران

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
12 تموز 2025

في العامين الأخيرين، وتحت ستار كثيف من دخان القنابل في غزة ولبنان وسوريا وإيران، ترسّخَ واقع بالغ الخطورة: إسرائيل باتت تمتلك الهيمنة الجوية المطلقة على سماء الشرق الأوسط، وتحولت «شرطي الأجواء» الوحيد من الساحل اللبناني ـ السوري على المتوسط حتى إيران. وهذه السيطرة ستكون لها تداعياتها العميقة عسكرياً وسياسياً.

باستثناء مقاتلات إسرائيل، لم يعد هناك أي طيران حربي يجرؤ، أو يملك القدرة، على التحليق في أجواء الإقليم كلها. والمثير أنّ إسرائيل تقوم بترسيخ سيطرتها الجوية هذه وتشريعها، باتفاقات وتفاهمات تعقدها ضمناً أو علناً مع الولايات المتحدة.

وهذا التفوق الإسرائيلي جاء نتاج عقود من التخطيط والاستثمار في تكنولوجيا التسلح والحروب. فإسرائيل بقيت تستثمر مليارات الدولارات في تطوير أسطولها الجوي، من مقاتلات الجيل الخامس مثل «إف-35» الشبحية، إلى أنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطوراً في العالم، كـ»القبة الحديدية» و»مقلاع داوود»، فيما القوى الإقليمية الأخرى بقيت مكشوفة وعاجزة تماماً. وهدف هذا الاستثمار الإسرائيلي ليس فقط «تأمين الحدود» بل ضمان التفوق النوعي الكاسح على أي خصم إقليمي.

وقد حظي هذا الجهد الإسرائيلي بدعم أميركي لا محدود، في شكل مُنَح وصفقات أسلحة متقدّمة. كما عمدت واشنطن إلى شرعنة الهيمنة الإسرائيلية الجوية بـ«وثائق»، كما ظهر من خلال اتفاق وقف النار في لبنان، وكما يبدو الاتجاه في غزة، وربما لاحقاً في إيران، حيث يمكن أن توافق الولايات المتحدة على تفويض حليفتها الإقليمية مسؤوليات أمنية كبرى هناك.

والأسوأ أنّ إسرائيل، فيما كانت تتلقّى الدعم اللامحدود، كانت القوى الإقليمية الأخرى تتعرّض لضعف منهجي، وغالباً ما غرقت في نزاعات داخلية دامت عقوداً أو تورطت في حروب مدمّرة، أو تعرّضت لعقوبات اقتصادية خانقة. وهذه هي حال إيران التي أصيبت قدراتها العسكرية، الجوية خصوصاً، بتآكل كبير، فيما كانت تطمح إلى أن تشكّل ثقلاً إقليمياً موازناً لإسرائيل. ويجدر التذكير هنا بالتصفية التي تعرّضت لها القوة الجوية السورية، على محدودية فاعليتها، بعد سقوط نظام الأسد.

وفي أي حال، ليس في دول الإقليم من يمتلك الإرادة السياسية لخوض مواجهة عسكرية فعلية مع إسرائيل. ولذلك، استفاد الإسرائيليون من هذا الواقع ليوسعوا مساحة المناورة ويتحركوا بحريّة شبه مطلقة في سماء الدول المجاورة. ويوماً بعد يوم، ستكون لهذا الأمر تداعيات عسكرية وسياسية عميقة الأثر.

على الصعيد العسكري، باتت إسرائيل تتمتع بحرّية كاملة لتنفيذ عمليات استباقية وجمع معلومات استخبارية وضرب أي هدف في عمق أي دولة مجاورة، من دون الخشية من مقاومة جوية. ولذلك، قد تشهد المنطقة تصعيداً في الغارات على أهداف تعتبرها إسرائيل تهديداً، في لبنان أو سوريا أو غزة أو العراق أو اليمن أو أي مكان آخر، سواء كانت قواعد عسكرية أو مخازن أسلحة أو حتى منشآت حيوية استراتيجياً. كما سيؤدي ذلك إلى السيطرة على حركة الطيران العسكري، وحتى المدني. وقد تسعى دول المنطقة إلى تعزيز دفاعاتها الجوية، لكن الفجوة التكنولوجية الهائلة ستجعل هذا السباق غير متكافئ، ومكلفاً بلا جدوى حقيقية في مواجهة التفوق الإسرائيلي.

وأما في السياسة، فسيعني احتكار إسرائيل للسيطرة على «العرش الجوي» في الإقليم، أنّ الدول المجاورة ستبقى دائماً عرضة لانتهاكات ممنهجة في أجوائها. وإذا كانت القدرات النووية والصاروخية هي ورقة طهران التفاوضية، فإنّ إسرائيل قادرة على استهداف هذه القدرات جواً، ومن دون أن تلقى اعتراضاً يُذكر، وهذا من شأنه أن يُفقد الإيرانيين فاعلية هذه الورقة، ويجعلهم في موقع أشدّ ضعفاً. ومن البديهي أن يشجع تفوُّق إسرائيل دولاً عربية على التطبيع والتعاون الأمني معها.

وفي الخلاصة، ستشكّل هذه الهيمنة العسكرية الإسرائيلية أحد الوجوه الأساسية لترجمة مقولة نتنياهو: «نحن نقوم بتغيير الشرق الأوسط». فالهيمنة الجوية هي الترجمة الأبرز لهذه المقولة، إذ سترسخ وجود إسرائيل كقوة عظمى إقليمية تفرض إرادتها وتُملي شروط الأمن على جيرانها. وفي عبارة أخرى، إنّ هيمنة إسرائيل على أجواء الإقليم تعني فعلياً إعادة رسم الحدود الأمنية لدول المنطقة.

وفي ظل هذا الواقع، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق خطير، بين الاتجاه الصاروخي إلى تكريس الهيمنة الإسرائيلية، واحتمالات بروز قوى تتصدّى لهذا الواقع، سواء عبر «الدول» مباشرة أو عبر التنظيمات المسلحة التي تحركها «الدول». وفي أي حال، المواجهة ستحتدم.