
هل تعود الوصاية السورية على لبنان؟
تنقل تقارير إعلامية متداولة أن الحكم السوري الحالي برئاسة أحمد الشرع يسعى في الكواليس لاستعادة جزء من النفوذ السابق في لبنان عبر تفاهمات إقليمية، يقال إنه يلوح من خلالها باستعداد محتمل للتنازل عن ملف الجولان لمصلحة إسرائيل، مقابل “إطلاق يده” في بعض المناطق الحدودية اللبنانية. فما صحة هذه التقارير؟
قبل 20 عاماً، طوى لبنان واحدة من أكثر الصفحات سواداً في تاريخه الحديث، حين خرجت آخر طلائع الجيش السوري من أراضيه بعد ثلاثة عقود من السيطرة والوصاية المباشرة. يومها، ظن كثر أن العلاقة اللبنانية-السورية ستعود “طبيعية” بين دولتين مستقلتين، وأن زمن الاستخبارات والولاءات المفروضة طُوي إلى غير رجعة. لكن بعد عقدين كاملين على ذلك الخروج، عادت خلال الأسابيع الأخيرة إلى التداول روايات وتسريبات إعلامية توحي بأن “شبح العودة” قد يطل مجدداً بوجه جديد.
تنقل تقارير إعلامية متداولة أن الحكم السوري الحالي برئاسة أحمد الشرع يسعى في الكواليس لاستعادة جزء من النفوذ السابق في لبنان، عبر تفاهمات إقليمية، يقال إنه يلوح من خلالها باستعداد محتمل للتنازل عن ملف الجولان لمصلحة إسرائيل، مقابل “إطلاق يده” في بعض المناطق الحدودية اللبنانية، تحت عنوان “ترتيب الفوضى” وضبطها، فيما كانت تناقلت تقارير إعلامية خبراً مفاده بأن الموفد الأميركي إلى سوريا ولبنان توم باراك قال خلال لقائه الشرع “أنت رئيس لدولتين” في إشارة إلى سوريا ولبنان، من دون نفي أو تأكيد هذه المعلومات من قبل المسؤولين داخل بيروت ودمشق.
ترى أوساط سياسية متابعة أن ما يتردد في هذا السياق ليس إلا منتجاً سياسياً وإعلامياً يصنعه “حزب الله” نفسه ويغذيه لتبرير معادلات جديدة. فالحزب الذي عاش طوال أعوام على سردية “قتال إسرائيل” يجد اليوم أن هذه الورقة لم تعد قادرة على إقناع الرأي العام اللبناني، وبخاصة في ظل الضغوط العربية والدولية المتصاعدة لتطبيق القرارات الدولية ونزع سلاحه. ومع سقوط كثير من الذرائع التقليدية، وجد الحزب نفسه وفق التحليلات ذاتها مضطراً لصناعة خطر بديل طارئ يبرر استمرار احتفاظه بسلاح خارج سلطة الدولة.
تحريض إعلامي
تستند تقارير إعلامية إلى أن الحزب يروج لهذه الفكرة عبر تسريبات مقصودة، تستحضر في مضمونها الذاكرة الطائفية والمذهبية عند شرائح لبنانية محددة، ولا سيما المسيحيين، إذ لا ينسى هؤلاء تجربة السيطرة السورية في حقبة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ثم ابنه بتقارير إعلامية نقلت خبراً مفاده بأن باراك قال للشرع “أنت رئيس لدولتين” في إشارة إلى سوريا ولبنان (ا ف ب)شار الأسد، بكل ما حملته من تهميش واضطهاد أمني وسياسي وملاحقات وإقصاء رموز. ومن هنا، يحرص الخطاب المروج بحسب هذه التقارير، على الإيحاء بأن “الحكم الجديد” في دمشق لا يقل شراسة عن سابقه، بل ربما يكون أكثر حزماً تجاه “الأقليات” إذا أعيد فرض وصايته على لبنان.
الحزب بدوره وعبر مقربين منه كان نفى مراراً هذه المقاربة وأن هذه التقارير الإعلامية تخرج عبره للهدف المذكور أعلاه.
في المقابل، تكشف معطيات وتقارير إقليمية متقاطعة أن الوقائع الميدانية مغايرة كلياً، فالنظام السوري الحالي يفتقر إلى القدرة والموارد لفتح جبهة نفوذ جديدة في لبنان المنهك أصلاً. بل العكس، تظهر المؤشرات أن دمشق تحاول كسب شرعية خارجية وتسهيلات اقتصادية من الخليج والغرب لإعادة الإعمار، وتلتزم بضبط حدودها ومنع تهريب السلاح من وإلى “حزب الله”.
رئيس دولتين؟
يكشف مصدر دبلوماسي أميركي متابع عن قرب لملف العلاقات اللبنانية–السورية، أن الولايات المتحدة “واثقة تماماً” من أن سياسة الرئيس السوري أحمد الشرع تقوم على احترام كامل لسيادة لبنان وحدوده، موضحاً أن الشرع يلتزم بوضوح مبدأ “سوريا في سوريا ولبنان في لبنان”، وأن أي تنسيق بين دمشق وبيروت يندرج فقط في إطار تطوير العلاقات الثنائية وترسيخها على قاعدة الندية بين دولتين مستقلتين.
ويضيف أن “جميع المؤشرات السياسية للحكم السوري الحالي تؤكد أن احترام الحدود اللبنانية يعد من أولويات الرئيس الشرع، وانعكس ذلك بوضوح في إجراءات ضبط الحدود من الجانب السوري، من دون أي تدخل أو اقتراب داخل الأراضي اللبنانية”. ويستشهد بلقاء وزيري الدفاع والخارجية في البلدين الذي عقد أخيراً داخل السعودية، معتبراً أن هدفه الأساس كان وضع آليات واضحة لترسيم الحدود وفق الخطوط المتفق عليها دولياً، مما يؤكد أن دمشق ملتزمة بالكامل بسيادة لبنان ووحدة أراضيه.
في الوقت نفسه تمتلك وفق المصدر الأميركي “معطيات مباشرة” أن السياسة السورية الحالية “ترفض بالمطلق أية صورة من صور التمدد أو الضغط على الداخل اللبناني”، فيما تبقى مسألة “حزب الله” ملفاً داخلياً بيد الدولة اللبنانية وحدها. ويحذر من أن بقاء السلاح خارج سلطة الدولة قد يفتح الباب أمام احتكاكات أو صدامات على الحدود مع سوريا، مما يمنح الحزب ذريعة لتصعيد التوتر وترويج رواية وجود تهديد سوري لا أساس له.
وينفي المصدر نفسه بصورة قاطعة صحة المزاعم التي روجت داخل بعض الأوساط عن نقل رسائل أميركية تفيد بأن واشنطن قد توافق على “تلزيم” لبنان لسوريا إذا لم ينزع سلاح الحزب. وعدَّ أن “هذا الكلام مختلق بالكامل، هدفه الاستهلاك الداخلي وتشويه المواقف، وهو جزء من حملات مشبوهة لتسويق سيناريوهات تخدم مصالح فئة بعينها”.
لبنان قد يسلم لسوريا
وفي السياق، رسم الناشط السياسي اللبناني–الأميركي زياد عبدالنور صورة قاتمة لاحتمالات المرحلة المقبلة إذا لم تقدم الدولة اللبنانية على قرارات حاسمة بسرعة، محذراً من أن لبنان “قد يترك لتسويات الآخرين، أو يعاد تلزيمه لسوريا” إذا ظل يتخبط في الفراغ.
وقال إن “واشنطن اليوم لا تتعامل مع الحكومة اللبنانية كحكومة تملك قرارها، بل كوسيط عاجز عن فرض السيادة الداخلية”. وأضاف “هناك محاولة جارية لفرض تسوية كبرى، إما أن يلتزم لبنان بشروط واضحة لناحية حصرية السلاح، والانضمام إلى مسار اتفاقات أبراهام، وترتيب حدوده بقرار سيادي وإما أن يتحمل وحده عواقب العجز”.
وأكد أن واشنطن والإدارة الحالية برئاسة دونالد ترمب لا تهتم بالشعارات ولا الاجتماعات الشكلية، فيما بعض الأصوات بدأت تطرح سيناريوهات خطرة، منها احتمال أن يعاد فتح الباب أمام سوريا لتمسك مجدداً بمفاصل أساس في لبنان إذا عجزت الدولة عن ضبط حدودها ونزع السلاح غير الشرعي، أو أن تتحول حدود لبنان إلى ساحة مفتوحة للصدامات الإسرائيلية لتصفية الحسابات مع “حزب الله”، مما قد يعيد خلط الأوراق على حساب السيادة الوطنية.
وقال “الوقت ينفد والعالم يتغير بسرعة والوضع خطر لأننا نتصرف كوسيط لا كدولة. إذا لم تحسم الحكومة أمرها بسرعة، فإن لبنان معرض لأن يترك وحيداً خارج خريطة الاستثمارات والدعم الخارجي، أو يترك لمصيره، فيدخل تلقائياً ضمن تفاهمات إقليمية تعيده إلى الوصاية السورية بصورة أو بأخرى ويصبح عبئاً يوضع في عهدة الآخرين”.
مقايضة الجولان بطرابلس
يتوقف الصحافي يوسف دياب بدوره عند المزاعم المتداولة حول وجود صفقة سياسية مزعومة تقضي بتخلي النظام السوري عن الجولان جنوب البلاد مقابل ضم مدينة طرابلس أو مناطق لبنانية أخرى إلى سوريا، معتبراً أن هذا السيناريو “غير واقعي ومضلل”، ويهدف إلى تبرير تمسك بعض القوى اللبنانية بسلاحها خارج الشرعية.
وقال “الحديث عن مقايضة الجولان بطرابلس، أو تصوير بقاء السلاح على أنه ضرورة وطنية لمنع تمدد النظام السوري الجديد باتجاه الشمال اللبناني، هو طرح مبالغ فيه إلى حد كبير، ويحمل ملامح التضليل المتعمد. من يروج لهذا النوع من الخطاب، سواء من الداخل اللبناني أو عبر بعض الصحافيين الإسرائيليين، يخدم سردية تبرر استمرار السلاح تحت شعار حماية السيادة”.
وأضاف “لا يمكن تصور أن الولايات المتحدة، وهي اللاعب الأبرز في رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، يمكن أن تقبل بتسليم طرابلس أو صيدا للنظام السوري. هذا السيناريو لا ينسجم مع التوازنات الدولية ولا مع الواقع السياسي القائم. لبنان ليس ورقة يمكن التلاعب بها بهذه البساطة”.
وشدد دياب على أن اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم يرفضون أي مساس بأراضيهم، قائلاً “لا مؤيد للنظام السوري في لبنان ولا معارض له يقبل بفكرة التنازل عن شبر واحد من الأرض. وكما نرفض الاحتلال الإسرائيلي نرفض أيضاً أي ضم أو تدخل من أية جهة… سورية كانت أم غيرها”.
وتطرق إلى التحولات التي تشهدها سوريا اليوم، معتبراً أن “دمشق تتقدم بخطى واضحة نحو الاندماج في المحيط العربي، عبر الانفتاح الاقتصادي ومساعي رفع العقوبات ومشاريع إعادة الإعمار. وفي ظل التردي اللبناني، قد تصبح سوريا مستقبلاً وجهة أكثر استقراراً وجذباً من لبنان نفسه”.
لكنه حذر خلال الوقت نفسه من أية محاولات لبنانية لاستخدام الأراضي السورية كمنصة لتوسيع النفوذ الأمني، مشيراً إلى أن الحكم الجديد في سوريا لن يقف مكتوف الأيدي إذا تبين أن “حزب الله” أو غيره يزرع خلايا داخل سوريا. عندها قد يأتي الرد سورياً داخل لبنان، كما حصل في حادثة بلدة حوش السيد علي الحدودية بين البلدين قبل أشهر قليلة، لكن هذا لا يعني بأية حال من الأحوال عودة السيطرة السورية. تلك المرحلة انتهت ولا يمكن القبول بإحيائها مجدداً.
شائعة عارية عن الصحة
العميد المتقاعد سعيد القزح ينفي بدوره بصورة قاطعة ما يتداول في بعض وسائل الإعلام ومنصات التواصل حول وجود نية لدى سوريا للتدخل في لبنان، واصفاً هذه المزاعم بأنها عارية تماماً عن الصحة، مؤكداً أن دمشق “لا تخطط لأية خطوة من هذا النوع، لا سياسياً ولا عسكرياً”، معتبراً أن الحديث عن “خطر سوري مفترض” ليس سوى ذريعة بديلة لصناعة تهديد خارجي وهمي يبرر استمرار التسلح والانتشار المسلح خارج سلطة الدولة.
ويتطرق المتخصص العسكري إلى مسألة المقاتلين الأجانب في سوريا، والأخبار المتداولة في لبنان عن انتشار المئات منهم في مناطق سورية تحاذي الحدود اللبنانية، مشيراً إلى أن عدد المقاتلين من أقلية الإيغور الصينية الذين دخلوا سوريا خلال أعوام الحرب بلغ نحو 15 ألفاً، لكن غالبيتهم خرجوا من الميدان العسكري واتجهوا إلى أعمال الزراعة والصناعة، فيما لم يتبق في الإطار العسكري سوى نحو 3500 عنصر فحسب، موضحاً أن هؤلاء المقاتلين يعملون ضمن وحدات منضبطة تحت رقابة الجيش السوري، بالتالي هم لا يشكلون خطراً على الداخل اللبناني، وحكماً لا نية بانتشارهم في مناطق حدودية لأهداف غير معلنة.
أما على المستوى الإقليمي، فأشار القزح إلى أن سوريا تدخل مرحلة جديدة ضمن ما يعرف بـ”الشرق الأوسط الجديد”، وفق تعبير الموفد الأميركي توم براك الذي أكد أن المنطقة تشهد تحولات اقتصادية وتنموية كبرى، داعياً لبنان إلى اللحاق بهذا المسار قبل فوات الأوان.
السلاح ضرورة
يقرأ الكاتب السياسي المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية قاسم قصير والمقرب من “حزب الله” في التقارير المتداولة، ويرى أن أي تدخل سوري مفترض في لبنان ستكون له تداعيات أمنية وسياسية كارثية، معتبراً أن سيناريو “مقايضة الجولان بطرابلس” الذي روجت له بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية طرح لا يخدم المصالح السورية.
ورأى أن الهدف من ترويج مثل هذه الفرضيات قد يكون اختبار ردود الفعل الداخلية في لبنان، أو محاولة لإثارة التوترات والفتنة بين المكونات السياسية والطائفية، مؤكداً أنه لا توجد أية معطيات على الأرض تدعم هذه السيناريوهات.
وفي ما يخص ملف سلاح الحزب،= رأى أن السلاح لا يزال ضرورياً في المرحلة الحالية، إلى حين تحقيق انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي اللبنانية ووقف الاعتداءات. وحول ما يثار عن انتشار عناصر من الحزب على الحدود اللبنانية–السورية، أوضح قصير أنه “لا تتوافر معلومات حاسمة في هذا الإطار”، مؤكداً خلال الوقت نفسه وجود حرص واضح على “تفادي أية خطوة يمكن أن تستغل إسرائيلياً أو تفسر كتحرك خارج السيطرة”.
من الحرب إلى الهيمنة
منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، شكل لبنان بالنسبة إلى النظام السوري السابق ساحة نفوذ حيوية تدار منها أوراق إقليمية أوسع. ومع تصاعد النزاع الداخلي وانهيار الدولة عملياً، دخلت القوات السورية لبنان عام 1976 بغطاء عربي سمي حينها “قوات الردع العربية”، لتتحول تدريجاً إلى القوة الفعلية التي تتحكم بخيوط الحرب والتسويات.
ومع نهاية الثمانينيات، كرس اتفاق الطائف (1989) الذي أنهى الحرب الأهلية هذا الواقع عملياً، إذ نص في بنده العسكري الأمني على إعادة انتشار القوات السورية في البقاع خلال فترة انتقالية مدتها عامان، لكن الواقع الفعلي كان مختلفاً إذ أسست دمشق شبكة نفوذ كاملة داخل لبنان من الجيش إلى أجهزة الاستخبارات، مروراً بالحياة السياسية.
خلال تلك الأعوام، باتت القيادة السورية هي الطرف الحاسم في تعيين رؤساء الجمهورية وتكليف رؤساء الحكومات وحتى رسم تركيبة الحكومات وتوزيع الحقائب السيادية. واشتهرت “الزيارات الدورية” إلى مدينة عنجر البقاعية –مقر الاستخبارات السورية– كمحطة إلزامية للمرشحين إلى المناصب الكبرى. ومن خلف الكواليس، أدار ضباط الاستخبارات ملف النواب والقوى الحزبية حتى أصغر التفاصيل، وصولاً إلى صياغة التفاهمات البرلمانية أو تأمين الولاءات.
هذه الهيمنة لم تقتصر على السلطة التنفيذية والتشريعية فحسب، بل امتدت إلى القضاء والأجهزة الأمنية والإدارة العامة، إذ كانت التعيينات تمر عملياً عبر “بوابة دمشق”، في مقابل تثبيت استقرار هش ومنظومة ولاءات موزعة طائفياً وسياسياً.
إلى أن أتى عام 2005 حين اغتيل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري فانطلقت انتفاضة داخلية غيرت كل شيء. وفي أقل من شهرين، انهار النفوذ العسكري السوري تحت ضغط الشارع وصدور قرار مجلس الأمن 1559، لتنتهي معها الوصاية السورية على لبنان.