
سابقة قضائية: حكم يعترف بشرعية طفلة من زواج مدني
بعد أربعة أشهر على صدوره، خرج إلى العلن حكم قضائي لافت عن الغرفة الابتدائية الرابعة المختصة في الأحوال الشخصية في جبل لبنان، قضى بالاعتراف بشرعية طفلة وُلدت خارج إطار الزواج في العام 2019، بعدما تزوّج والدها الدرزي ووالدتها الشيعية مدنياً في قبرص في العام 2022. القرار الصادر برئاسة القاضي لبيب سلهب شكّل سابقة نادرة في تعامل القضاء اللبناني مع قضايا النسب والزواج المدني خارج البلاد.
القانون القبرصي أساس الحكم
استندت المحكمة في قرارها إلى القانون المدني القبرصي، الذي يجيز منح الطفل المولود خارج الزواج صفة “الشرعي” بأثر رجعي، إذا ما تزوّج والداه لاحقاً. كما استندت إلى القانون اللبناني الذي يجيز، في حال الزواج خارج لبنان، تطبيق القانون المدني المعتمد في الدولة التي تم فيها عقد القران.
هذه المفارقة تسلط الضوء على الفجوة بين القوانين المدنية المطبقة في الخارج والقوانين الدينية التي تتحكّم بالأحوال الشخصية في لبنان. فبينما يعترف القانون القبرصي بشرعية الأطفال المولودين قبل الزواج، شرط زواج الوالدين لاحقاً، فإن القوانين الدينية المعتمدة في لبنان لا تزال تعتبر هؤلاء الأطفال غير شرعيين، حتى مع اعتراف الأهل وتوثيق الزواج بعد الولادة.
قصة الزواج وتسجيل الطفلة
في كانون الأول 2022، عقد الزوجان، وهو درزي وهي شيعية، قرانهما في قبرص، بعد علاقة أثمرت عن ولادة طفلة في تشرين الثاني 2019. وبعد الزواج، حاول الثنائي تسجيل ابنتهما في دائرة الأجانب ضمن السجل المدني، مستفيدين من كون الأب يحمل الجنسية الكندية. غير أن الطلب رُفض، بحجّة أن الأب لبناني الجنسية أيضاً، وبالتالي لا يسري عليه استثناء الأجانب.
لاحقاً، تقدّما بطلب لتسجيل الطفلة في السجل المدني اللبناني، بالاستناد إلى القانون المدني القبرصي. لكنّ هذا الطلب رُفض بدوره، لأن الولادة سبقت عقد الزواج، الأمر الذي يُفقد الطفلة صفة “الشرعية” بنظر السلطات اللبنانية.
في محاولة لتثبيت النسب، توجّه الزوجان إلى قاضٍ مدني منفرد، وقدّما فحص الحمض النووي الذي يثبت أبوّة الأب. ورغم اعتراف القاضي بصلاحيته إصدار قرار بالتسجيل، اعتبر أن حسم مسألة “الشرعية” يعود إلى الغرفة الإبتدائية الرابعة المختصة في الأحوال الشخصية في جبل لبنان، وليس إلى صلاحياته.
شرعية معلّقة في نظام طائفي
بحسب موقع المحكمة، فإن القرار الصادر في قضية الطفلة يشكّل خرقاً غير مألوف للتقاليد الطائفية التي تحكم قوانين الأحوال الشخصية في لبنان، حيث تخضع كل طائفة دينية لنظامها الخاص، وترفض الغالبية الساحقة منها الاعتراف بشرعية أي مولود خارج إطار الزواج الديني الرسمي، حتى ولو اعترف به والداه لاحقاً وتزوّجا.
صحيح أن الدولة اللبنانية، لجأت منذ سنوات إلى تلطيف الصياغة عبر إلغاء مصطلح “طفل غير شرعي” من بطاقات الهوية وسجلات النفوس العلنية، إلا أن هذه “الشرعية الشكلية” لا تلغي الحقيقة القانونية الراسخة في القيود الداخلية لدائرة الأحوال الشخصية، حيث يُدوَّن أن المولود قد وُلد خارج إطار الزواج، ويبقى ذلك مؤثراً على وضعه القانوني طوال حياته.
وأسوء ما في هذه القيود أنها لا تتوقّف عند حدود المعنويات، بل تُنتج مفاعيل قانونية مباشرة، أبرزها الحرمان من الميراث. إذ لا يحق للطفل المولود خارج الزواج أن يرث والده وفق أنظمة الأحوال الشخصية.
غياب الزواج المدني داخل لبنان
هذه الإشكالية تسلّط الضوء مجدداً على غياب قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية في لبنان، رغم المطالبات الحقوقية المتكررة. فلبنان يبقى من الدول القليلة في العالم التي لا تتيح لمواطنيها الزواج المدني على أرضها، ما يضطر الراغبين بالخروج من القوالب الطائفية إلى السفر إلى قبرص أو تركيا أو دول أوروبية لعقد قرانهم، ثم العودة لمحاولة تسجيله وفقاً لمعادلات معقّدة بين الاعتراف القانوني والرفض الطائفي.
وبذلك، يُعامل الزواج المدني في لبنان كـ”أمر واقع” لا يُمكن تجاهله في السجلات، لكنه أيضاً لا يُدمج فعلياً في منظومة الأحوال الشخصية التي تكرّسها المحاكم الدينية. ويزيد من تعقيد المشهد أن المراسيم والقوانين التنفيذية التي تنظم تسجيل الزواج المدني الأجنبي تفتقر إلى الوضوح، ما يترك المجال لتقدير الموظف أو القاضي، ويفتح الباب على تضارب واسع في المعاملة.