
ماذا يفعل “جيش الجن” في شوارع طهران؟!
لم يقتصر إيمان المرشد خامنئي بـ”جيش الجن” و”العدو من الجن” على ارتداء خواتم حديدية محصنة بل تحدث عن ذلك مراراً في خطاباته. ففي الأيام الأولى من عام 2020، وفي خطاب رسمي، ادعى أن “جيش الجن” يتعاون مع أجهزة استخبارات دول أخرى لإسقاط النظام الإيراني.
انتشار الخرافة واللجوء إلى التعاويذ والسحر وإلقاء تبعات الضعف والعجز الدفاعي والعسكري على عاتق “جيش الجن” ليس ظاهرة جديدة في إيران، وقد أحدث منشور حولها لمستشار عمدة طهران والمدير السابق لصحيفة “همشهري” عبدالله كنجي، ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي في إيران.
وزعم عبدالله كنجي في حسابه على منصة “إكس” أخيراً، أنه بعد انتهاء الحرب التي استمرت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران جرى العثور على “أوراق كتب عليها السحر برموز يهودية” في شوارع طهران. وأضاف مستشهداً بقول للمرشد الإيراني علي خامنئي إن “الدول المعادية وأجهزة الاستخبارات الغربية والعبرية تستعين بالعلوم الغيبية ومخلوقات الجن للتجسس علينا”.
وأثار ادعاء كنجي الأخير ردود فعل واسعة، حيث سخر منه كثر على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك فإن مراجعة التاريخ السياسي للنظام الإيراني تظهر أن الإيمان بالسحر والتعاويذ والحرب مع ما يسمى “جيش الجن” في بعض أركان النظام ليس مجرد خرافة، بل إن بعض المسؤولين وأصحاب القرار قد اعتمدوا على مثل هذه الأساليب في إدارة شؤون البلاد وحتى في اتخاذ قرارات أمنية وسياسية.
ويمكن ملاحظة مثال على هذا النهج في الخبر المتعلق بإنشاء إدارة “مكافحة الجن” في وزارة الاستخبارات خلال حكومة حسن روحاني. وعلى رغم أن وزير الاستخبارات آنذاك، محمود علوي، نفى إنشاء هذه الإدارة، سُرب خلال احتجاجات عام 2022 تسجيل صوتي لأحد مسؤولي الوزارة قال فيه إن “الجن الشياطين” نشطوا في الاحتجاجات، وإن رجال الدين البارزين يحاولون إعداد تعليمات للتصدي لهم. وقبل ذلك بقليل، زعم محمد شجاعي أحد أعضاء الحوزة الدينية، أن أحد أسباب الاضطرابات الأخيرة في إيران هو نشاط الجن.
سر خاتم الحديد
نشرت وكالة “دانشجو” للأنباء، التابعة لـ”الباسيج”، تقريراً في أوائل سبتمبر (أيلول) 2024، خلال لقاء المرشد علي خامنئي مع مجموعة من قادة الحرب الإيرانية- العراقية، تزامناً مع تصاعد هجمات إسرائيل على “حزب الله” في لبنان، وذكرت فيه أن المرشد خامنئي كان يرتدي في هذا اللقاء خاتماً من الحديد، موضحة أن لهذا الخاتم استخدامات خاصة في التقاليد الدينية، تحديداً في أوقات الحرب.
وجاء في التقرير أن “سر خاتم الحديد أنه يزيل العداوة بين الجن والإنس، ويفتح الطريق لمواجهة وإخماد الشياطين والأعداء”. وكان خامنئي قد ارتدى خاتم الحديد أيضاً بعد بدء احتجاجات عام 2009، التي أعقبت الانتخابات الرئاسية التي رافقت اتهامات تزوير لمصلحة محمود أحمدي نجاد.
بالطبع، لم يقتصر إيمان المرشد خامنئي بـ”جيش الجن” و”العدو من الجن” على خواتمه فحسب، بل تحدث عن ذلك مراراً في خطاباته. ففي الأيام الأولى من عام 2020، وفي خطاب رسمي، ادعى أن “جيش الجن” يتعاون مع أجهزة استخبارات دول أخرى لإسقاط النظام الإيراني.
واستشهد المرشد خامنئي في هذا الخطاب بآية من القرآن وقال إن “إيران لها أعداء كثر، أعداء من الجن وأعداء من الإنس، وجميعهم يتعاونون في ما بينهم”. وقد أثارت عبارته “الأعداء من الجن” وقتها ردود فعل واسعة في وسائل الإعلام والرأي العام، بل إنه في خطاباته السابقة أشار مرات عدة إلى “تآزر شياطين الجن والإنس”.
وفي مجلة “نكار” الإلكترونية التي يديرها الموقع الرسمي للمرشد، نقل عن أحمد عابدي أستاذ الحوزة والجامعة قوله، إنه “لا شك أن اليهود، بخاصة الصهاينة، لديهم باع طويل في الأمور الغيبية والعلاقة مع الشيطان والجن”. وأضاف أنه “لا شك أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً تستفيد من هذه الأمور”.
وجاءت هذه التصريحات رداً على سؤال صريح من مقدم البرنامج عن تعبير “جيش شياطين الجن والإنس” الذي ورد في خطاب عيد “النوروز” للمرشد علي خامنئي.
آثار أقدام الجن
لدى البحث عن كلمات مفتاحية مثل “السحر” و”التعاويذ” و”جيش الجن” و”العدو الجني” في خطابات مسؤولي وأنصار النظام الإيراني يظهر أن من قائد النظام إلى بعض ركاب قطار الثورة توجد نسبة كبيرة من المسؤولين الذين يؤمنون حقاً بهذه المفاهيم أو في الأقل تقتضي مصالحهم أن يوهموا بذلك، وهي طريقة تحولت عملياً إلى وسيلة لتبرير الهزائم والتغطية على نقاط الضعف الاستخباراتية والأمنية والعسكرية.
وفي عام 2024، بعد مقتل الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني حسن نصرالله، أصبحت فعالية الاستخبارات الإسرائيلية محور اهتمام شديد. في تلك الأيام طرحت تحليلات وتكهنات عديدة حول كيفية رصد واستهداف نصرالله، منها احتمال دور جاسوس إيراني في كشف موقعه إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع قادة الحزب.
مع ذلك وسط هذه القراءات الفنية والاستخباراتية، ظهرت رواية من داخل النظام الإيراني حيث ادعى مصطفى كرمي تلميذ آية الله شبيري زنجاني وآملي لاريجاني، في برنامج تلفزيوني أن “إسرائيل تستخدم الجن للتجسس”. بل ذهب أبعد من ذلك وأضاف أن “لإسرائيل باعاً في تسخير الجن، والشياطين هم الجيش الخفي لهذا الكيان”.
أما الآن، وبعدما اتضحت الهزيمة الاستخباراتية القاسية لإيران بمقتل عدد كبير من قادة الحرس الثوري والعاملين في البرنامج النووي في وقت واحد، حاول عبدالله كنجي أن يسقط مسؤولية هذه الإخفاقات عن كاهل النظام بإرجاعها إلى “جيش الجن”.
السخرية والتهكم
خلال عام 2024، عندما نسب أحد خبراء التلفزيون الرسمي الإيراني مقتل حسن نصرالله إلى “جيش الجن”، تناول كثير من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي هذه الرواية بنظرة ساخرة وتهكمية، إذ كتب بعضهم أن “لو كان كل شيء ينسب إلى الجن، فربما الجن هم أيضاً من أخرجوا الوثائق فائقة السرية للبرنامج النووي بشاحنة إلى خارج البلاد”.
وتساءل آخرون أنه “إذا ما افترضنا أن مثل هذه الكائنات في خدمة النظام، فلماذا لا يستخدم مئات طلاب الحوزة الجن المسلم لمواجهة إسرائيل؟”. وأشار البعض إلى الاستخدام المتكرر لرجال الدين للخواتم الدينية والرموز الطاردة للشياطين، وكتبوا بتهكم أنه “حتى خاتم الحديد لم يستطع حماية أرواح رجال الدين”.
وفي الأيام الأخيرة أيضاً، بعد نشر رسالة عبدالله كنجي وادعائه العثور على “أوراق كتب عليها السحر برموز يهودية” في شوارع طهران، نشأت موجة جديدة من التفاعل في الفضاء الافتراضي، إذ استقبل المستخدمون هذه الرواية مرة أخرى بالسخرية. وكتب بعضهم أنه “لا بد أن الموساد أرسل هذه التعاويذ بالبريد السريع فبقيت وسط طهران”. وكتب آخر، “لسنا فقط متأخرين عن العدو في التكنولوجيا العسكرية، بل أيضاً في تكنولوجيا الجن”.
هذه التفاعلات تظهر أن جزءاً كبيراً من الرأي العام لا يصدق الروايات الخرافية فحسب، بل يعدها دليلاً على تهرب النظام من المساءلة العقلانية أمام الأزمات والهزائم. وفي المقابل، باتت إدارة بعض الأمور وحتى اتخاذ قرارات سياسية مهمة عملياً مرتبطة بمثل هذه المعتقدات، إلى حد أن المسؤولين في أفضل الأحوال يلجأون إلى “الاستخارة” لاتخاذ القرارات المهمة، أو يتشاورون سراً مع العرافين وأصحاب التعاويذ والدعاء والسحر.
وفي عام 2009، بعد تعيين إسفنديار رحيم مشائي نائباً أول لأحمدي نجاد ورفض المرشد علي خامنئي ذلك، قدم تيار من الشخصيات المقربة من الحرس الثوري مشائي على أنه الوسيط الذي ربط أحمدي نجاد بالعرافين والمشعوذين والمرتاضين. بل زعموا أن محمود أحمدي نجاد وحلفاءه السياسيين وصلوا إلى “قدرات ماورائية” عبر هؤلاء.
وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة من رئاسة أحمدي نجاد، اعتقل بعض الشخصيات المعروفة بممارسات الشعوذة والجن، مثل عباس غفاري، لتقديم ذلك كدليل على صحة الادعاءات حول نفوذ المشعوذين في الحكومة. لكن في النهاية اتضح أن علاقة هؤلاء المشعوذين بأعضاء مكتب المرشد علي خامنئي وبشخصيات قضائية واستخباراتية مثل محسني إجئي وعلي فلاحيان وزير الاستخبارات السابق، كانت أوسع من علاقتهم بغيرهم.
وعلى رغم أن شخصيات مثل رئيس السلطة القضائية الحالي غلام حسين محسني إجئي، أنكرت علاقتها بغفاري، أظهرت الأدلة أن هذه القضية تتجاوز مجرد ملف سياسي فئوي، وتشكل مثالاً واضحاً على نفوذ الخرافة في الطبقات الأمنية وصنع القرار في النظام.