
عودة لبنان إلى السبعينات: إسرائيل جنوباً.. وسوريا بقاعاً وشمالاً؟
أخطر ما كشفته مواقف الموفد الأميركي توم باراك هو مدى الهشاشة اللبنانية، أو هشاشة الكيان في نفوس أبنائه. موقف واحد كان كفيلاً بأن يشغل اللبنانيين ويشعل سجالاتهم التي لا تنتهي، على سبيل إدانة بعضهم البعض. فذهبت فئة إلى تحميل حزب الله مسؤولية “ذوبان” الكيان في معادلات إقليمية ودولية جديدة. بينما حزب الله وحلفاؤه ركزوا على انتقاد معارضيهم وحلفاء الولايات المتحدة الأميركية لعدم توجههم بردود عنيفة على كلام باراك.
وسط هذا الانقسام، كان هناك انشغال فعلي بالتدقيق بما قاله باراك، خصوصاً في ظل الربط ما بين الموقف والتحذيرات التي كان قد تبلغها المسؤولون اللبنانيون، بأنه ما لم تتمكن الدولة اللبنانية من جدولة عملية سحب السلاح بشكل كامل وتطبيقها، فإن عناصر خارجية كثيرة ستتداخل على الساحة اللبنانية بالإضافة إلى التلويح بحرب إسرائيلية كبرى.
عودة إلى المقاومة؟
عمل معارضو حزب الله على تكثيف ضغوطهم عليه، وعلى الدولة اللبنانية، للتحرك سريعاً في سبيل سحب السلاح. في المقابل، رفع الحزب معادلة جديدة، مفادها أن ما قاله باراك يدعو إلى التحصن بالسلاح والتمسك به خوفاً من العودة إلى النفوذ السوري، هذا السجال من شأنه أن يحول الأنظار عن إسرائيل والمواجهة معها إلى مواجهة سوريا أو مؤيديها في لبنان، على اعتبار أن الحدود الشمالية والشرقية تعيش حالة تهديد دائم، ولا بد من العمل على الدفاع عنها، وهذا يقتضي إعادة إحياء مفهوم “المقاومة الشعبية” في استعادة لتجربة تعايشت معها بعض القرى والبلدات البقاعية في السنوات الممتدة ما بين 2012 و2017.
كل هذه المواقف أسهمت في تعزيز الانقسام اللبناني، والذي سيكون قابلاً لأن ينفجر أكثر فأكثر لاحقاً، خصوصاً في حال فشلت الدولة اللبنانية في تقديم رؤية توائم ما بين الضغوط الخارجية والمقتضيات الداخلية. عملياً، هناك محطات تاريخية كثيرة يمكن استعادتها في مثل هذه اللحظات. من التقاطع السوري الأميركي في السبعينيات، والذي انعكس حرباً اهلية في لبنان. إلى التقاطع السوري الأميركي السعودي بعد حرب تحرير الكويت، وترجم لبنانياً في مواكبة اتفاق الطائف ومنح سوريا وصاية على لبنان.
جزر سياسية
القصور اللبناني المستمر عن حماية الكيان وتقوية الدولة، والصراع الدائم على “الهويات” والوجهات السياسية، التي يُفترض بالدولة اللبنانية أن تحددها، سيعيد تحويل لبنان إلى “جزر سياسية” مختلفة ومنقسمة على بعضها البعض. خصوصاً في ظل الضغوط والتهديدات المتعددة من قبل إسرائيل عسكرياً، ومن قبل قوى إقليمية ودولية سياسياً. فإسرائيل لا تزال تهدد بالتصعيد العسكري في حال لم يتم سحب السلاح خلال فترة زمنية معينة. الولايات المتحدة الأميركية تلوح بسحب يدها ووقف اهتمامها. هنا، وفي حال تجددت الحرب الإسرائيلية، سيخرج كثر في لبنان إلى شن هجوم على حزب الله وتحميله المسؤولية، وسيؤكدون أنهم غير معنيين بهذه الحرب. وذلك سيفتح الباب أمام تعاظم الإشكالات في الداخل. وهو يمكنه أن يتطور لتتكرر معه تجربة السبعينيات في لبنان، خصوصاً في ظل مطالبة الجيش اللبناني والأجهزة الأخرى بالتعامل مع سلاح حزب الله، واعتبار أنه لا يجب الخوف من الحرب الأهلية، لأن هؤلاء يستندون على معادلة إقليمية ودولية تغيرت بالكامل، وتختلف عن المعادلة السابقة التي كان فيها صراع بين قوى دولية وإقليمية، بينما اليوم لا وجود إلا لطرف واحد.
النموذج الثاني، هو ما عبّر عنه باراك في معرض شرحه للوقائع، أو التي يمكن أن يحصل، في ضوء الحالة السورية النشطة، والتي تشكل عنصر دفع للكثير من اللبنانيين المؤيدين للنظام الجديد، وهذا يمكنه أن يتعزز في مقابل مواصلة إسرائيل احتلالها للأراضي اللبنانية وتنفيذ عمليات أمنية وعسكرية. وهو ما يمكن أن يحصل من الجهة السورية أيضاً، لا سيما أن سوريا تنظر إلى سلاح حزب الله وتركيبته العسكرية في البقاع كتهديد لها، ولا بد للبنان أن يتخلص منه.
تلك المعادلة التي ستنشأ هنا ستكون مشابهة لمعادلة السبعينيات في سطوة إسرائيل على منطقة تبلغ حتى نهر الأولي، وسطوة لسوريا على الشمال والبقاع. وهو ما يُمكن أن يُرفد بتفاهمات سياسية على المستوى الإقليمي والدولي، لإعادة انتاج معادلة خارجية تتحكم بالمسارات الداخلية كما حصل في التسعينيات، وكانت لسوريا فيه الدور الأكبر والأكثر تأثيراً.