الجميع يستعد لحرب جديدة

الجميع يستعد لحرب جديدة

الكاتب: جوني منيّر | المصدر: الجمهورية
17 تموز 2025

تتكدّس الغيوم السود مجدداً في السماء اللبنانية، لتنبئ بعاصفة قريبة في الأشهر المقبلة. فالتناقضات في مصالح القوى الإقليمية لا تزال قائمة، ولو أنّ نتائج الحروب والمواجهات الميدانية التي حصلت أدّت إلى تبدّلات كبرى، لكنها لم تترسّخ بما يكفي، وسط رهان إيراني على الوقت، وإصرار إسرائيلي على قلب المعادلة نهائياً، وطموح تركي باستغلال الوضع وملء المساحات الفارغة.

يدور نقاش داخل دوائر صناعة القرار الأميركي في واشنطن، يتصف بالحدّية في بعض وجوهه، ويطاول طريقة ترسيخ المعادلة الجديدة في الشرق الأوسط، ولكن من دون المساس بالخطوط الحمر للإستراتيجية الأميركية العريضة. والمقصود هنا على سبيل المثال نسف ركائز النفوذ الإيراني الإقليمي، ولكن من دون تعريض النظام الديني القائم لخطر سقوطه. ولا حاجة للقول إنّ لبنان يدخل في صلب هذا النقاش. فهنالك من يخشى أن تعيد إيران بناء شبكة نفوذها عبر العودة إلى أسلوبها المعروف أو نمطها التقليدي.

والمقصود هنا عبر تشجيع حالات الفوضى ونمو الجماعات المتطرفة، ما سيفتح الأبواب أمام عودة الدور الإيراني للمساعدة في ضبط الفوضى الإقليمية، بعد أن أضحت خلال المرحلة السابقة عامل تهديد إقليمي بسبب تمدّد نفوذها وقدراتها إلى مستويات كبيرة. ووفق أصحاب هذا التوجّه، والذي يدعمه اللوبي اليهودي بقوة، فإنّ نافذة التحولات التي حصلت قد لا تبقى مفتوحة طويلاً. وبالتالي لا بدّ من استغلال الفرصة التي ما زالت متاحة لتقويض ركائز النفوذ الإقليمي لإيران كلياً وجذرياً، خصوصاً أنّ الأحداث التاريخية تؤكّد أنّ باب الفرص في الشرق الأوسط يُغلق بالسرعة نفسها التي يفتح فيها. خصوصاً أنّ الرئيس التركي أردوغان يندفع برشاقة وخطى سريعة لاغتنام الفرص المفتوحة بهدف توسيع نفوذه الإقليمي. فهو من جهة عامل مساعد لتصفية النفوذ الإيراني، ومن جهة أخرى لا بدّ من رسم حدود لانفلاشه الإقليمي، لكي لا تشكّل تركيا مستقبلاً خطراً كالذي شكّلته إيران خلال العقدين الماضيين.

ووفق آخر استطلاعات الرأي الأميركية والتي أجرتها مجلة «الإيكونوميست»، ظهر مزيد من التراجع في الشارع الأميركي ضدّ ترامب. فلقد أعرب 55% من الأميركيين عدم رضاهم على أداء ترامب في مقابل 41% لمصلحته فقط. والأهم أنّ التحول الأبرز سُجّل على مستوى شريحة المستقلين، والتي سجّلت تراجعاً في تأييدها من 41% مع بداية ولايته الثانية إلى 29% فقط الأسبوع الماضي. وهو ما يزيد من الضغط على إدارة ترامب لتحقيق إنجاز دولي كبير وفي مستوى وعوده الإنتخابية، بعد فشلين كبيرين، إن في أوكرانيا أو حتى في غزة. وبما أنّ الضربة الأميركية لإيران حققت صدى داخلياً كبيراً، فهذا يدفع بإدارة ترامب إلى الرضوخ أكثر لوجهة النظر الإسرائيلية. ولبنان يشكّل ساحة عمليات أساسية.

من هنا تنحو إدارة ترامب إلى عدم التساهل مع الدور العسكري لـ«حزب الله» إضافة إلى امتداداته الرديفة، والمقصود هنا حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وتنظيمات أخرى متشدّدة تتعاون عسكرياً مع التركيبتين العسكرية والأمنية للحزب. والأهم هو الفاصل الزمني الضيّق تجنّباً لتبدّل الأوضاع والظروف.

ولا تتردّد أوساط أميركية معنية في واشنطن عن السخرية من طريقة التسريب الإعلامية لورقة الجواب الأميركية، عبر إبراز الجانب الإيجابي فقط والسعي لإخفاء البنود الأساسية المطلوبة. فهذه أساليب لم تعد موجودة، وأكل عليها الزمن وشرب. فوفق هذه المصادر، فإنّ القرار الأميركي متخذ بإنهاء السلاح الثقيل الموجود لدى «حزب الله»، إما عبر التفاهم أو من خلال ترك إسرائيل تتولّى الأمر. وتحدّد المصادر نفسها فصل الخريف موعداً زمنياً حاسماً أمام الشروع في التنفيذ، إما طوعاً أو بالقوة، ولو أنّها باتت تميل أكثر إلى الحل «العنفي». وفي المناسبة فهي تقول إنّها تمتلك معلومات تؤكّد أنّ إيران ومعها «حزب الله» حسما أمرهما بالمواجهة العسكرية وبعدم التجاوب مع الأوراق المطروحة، وهما يستعدان لها.

وفي المقابل، تتجهز إسرائيل للمواجهة المقبلة. فهي تدرك حجم الصدمة التي أحدثتها إن في داخل إيران أو على مستوى القوى المتحالفة معها حول مدى الخروقات الأمنية الواسعة التي نجحت في تحقيقها داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية في إيران. وبالتالي فهي تدرك جيداً أنّ طهران في حاجة ماسّة لبعض الوقت، ليس فقط لإيجاد ظروف جديدة تسمح بإعادة بناء قدراتها الإقليمية، لكن خصوصاً للعمل على معالجة الفجوات الأمنية الداخلية وإعادة ترميم قدراتها العسكرية. وهي النقطة التي لا تريد إسرائيل منحها لإيران، ما يجعل عامل الوقت مسألة في منتهى الأهمية. وفيما تصاعدت مستويات العنف والفوضى والدماء في سوريا، وحيث تسعى كل من القوى الإقليمية الثلاث إسرائيل وإيران وتركيا لتوظيفها في مشروعها الإقليمي، يجري تحضير الظروف للخريف اللبناني العاصف.

ويستعد «حزب الله» للمواجهة المقبلة وسط معرفته بظروفه الصعبة، ولو أنّه لا يقرّ بذلك علناً، وهذا منطقي ومفهوم. ففي كواليسه اقتناع عززته إيران، بأنّه حتى لو تمّ تسليم السلاح الثقيل الآن، فلا تل أبيب ولا حتى واشنطن ستكتفيان بذلك. لا بل ستذهبان إلى تصفية كل تركيبة «حزب الله» لاحقاً، وبعد أن يكون قد أصبح أعزل كلياً. وبالتالي فإنّ الحل الأفضل يصبح في القتال ولو أنّ الظروف تنبئ بنتائج صعبة.

وتبدأ الحسابات الصعبة من الواقع المالي المأزوم. فالحنفية المغلقة فرضت على قيادة الحزب البدء ببرنامج تقنين قاسٍ. ويُحكى عن «مساعدات» نقدية كانت تُمنح لمجموعات تُعتبر من الإحتياط تمّ وقفها، إضافة إلى تقديمات أخرى. أضف إلى ذلك أنّ البيئة التي تراجعت آمالها بإعادة إعمار منازلها وقراها باتت قلقة من أي استهدافات جوية جديدة، لأنّ من يخسر منزله بات قلقاً من فقدانه إلى الأبد.

أما المصاعب الإضافية فتتراوح بين فقدان دائرة الحماية السياسية الداخلية بعد تبدّل التوازنات الداخلية ووصولاً إلى وجود سلطة أعلنت صراحة أنّها لن تقبل باستمرار أي سلاح غير شرعي.

وحتى على المستوى العسكري ثمة حسابات ليست بسهلة. صحيح أنّه خلال الحرب الأخيرة أظهر مقاتلو «حزب الله» بأساً كبيراً وشجاعة واضحة في قتالهم لوقف التوغل الإسرائيلي، إلّا أنّ الترجيحات والفرضيات تتحدث عن أساليب جديدة. فالواضح أنّ الحرب الجوية لا تؤدي إلى تبديل المعادلات القائمة ميدانياً. من هنا الكلام عن حضور ميداني مختلف، كمثل حصول إنزالات جوية تؤدي إلى قطع أوصال الترابط بين مناطق نفوذ «حزب الله»، عند الطريق الساحلية التي تربط الضاحية بالجنوب، وعند الطريق التي تربط ما بين البقاع الشمالي بالغربي، وبينهما وبين الضاحية.

لكن السيناريو الأخطر، والذي لا بدّ أنّه يقلق «حزب الله»، هو التحشيد الذي يحصل ولو بالتدرّج للقوات السورية عند الحدود المتاخمة للبقاع الشمالي. ذلك أنّ إحدى المهمّات المطلوبة من دمشق القضاء على نفوذ إيران في سوريا، والمساعدة على ذلك في لبنان.

ولا شك في أنّ هذه الصورة سوداوية وتفتح احتمالات تدفع الداخل اللبناني إلى الفوضى، وعلى سبيل خلط الحابل بالنابل. لكن الرهان هنا على دور الجيش اللبناني. ولفتت في هذا الإطار موافقة وزارة الخارجية الأميركية على عقد بيع خدمات الصيانة وقطع الغيار والتدريب الفني لطائرات «السوبر توكانو» والمخصصة للهجوم والإستطلاع ولحروب العصابات، وبقيمة 100 مليون دولار ستدفعها واشنطن بكاملها. وفي المناسبة، فإنّه تبرز هنا مجدداً ومرّة إضافية، قصر نظر بعض الأطراف، والذي يعتمد خطابات غرائزية لأهداف ضيّقة وانتخابية، وتؤدي لمحاصرة الجيش والسلطة القائمة، في وقت لا بدّ من جانب من المسؤولية وبُعد النظر، خصوصاً أنّ تجارب الماضي غنية بالمحطات المأسوية.

وخلافاً لما يعتقده البعض، فإنّ الموعد الصعب لن يتأخّر كثيراً وحدّه الأقصى نهاية السنة. ذلك أنّ الإنتخابات النيابية تشكّل محطة يجب أن تؤدي إلى ترسيخ واقع سياسي بمفهوم إقليمي جديد، خصوصاً أنّ المجلس النيابي هو البنية التحتية للنظام السياسي في لبنان.
لكن، هل هذه الصورة السوداوية حتمية؟ بالتأكيد لا، في حال تيقنّا من حجم المخاطر الجدّية المفتوحة، وفي حال قدّمت واشنطن في المقابل ضمانات أمنية جدّية وثابتة. ولا حاجة لتكرار مقولة إنّه «عند تغيير الدول إحفظ رأسك»، ونحن في قلب تغيير كل الشرق الأوسط.