
“العامل الإسرائيلي” يقتحم صراع السويداء
تثبت التطوّرات المأسوية التي تعصف بالسويداء، وقبلها أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا والساحل السوري والممارسات الشنيعة المتنقلّة، كما الهوّة السحيقة بين دمشق و”قسد”، مدى عمق الأزمة السورية واستحالة معالجتها باعتماد مقاربات عسكرية وأمنية لقهر كلّ من هو مختلف دينيًا أو إثنيًا أو لغويًا أو سياسيًا. لطالما كانت الدولة المركزية في سوريا عدوّة الإنسان والحرّية، وتاليًا عدوّة الشعوب التي تكوّن “الفسيفساء السورية”، لأنها نقيض التعددية والمساواة والعدالة، ولم تستطع فرض ذاتها يومًا سوى بقوّة الترهيب والاضطهاد الممنهجَين وقمع المجموعات المعارضة والجماعات المغايرة طوائفيًا عن “الحاكم بأمره” في دمشق.
يدّعي شاتمو “سايكس بيكو”، عن جهل أو خبث، أن الاتفاق قسّم المنطقة، إلّا أن الحقيقة التاريخية الصارخة تؤكد أن اتفاق موازين الحرب العالمية الأولى لم يُقسّم المشرق على مقاسات شعوبه الدقيقة والصحيحة، بل وفق مصالح القوى الدولية آنذاك، التي تقاطعت مع طموحات شعوب وتضاربت مع مشاريع شعوب أخرى. وبصرف النظر عن إمكانية تغيير الحدود السياسية في المستقبل المنظور من عدمها، فإن حق الشعوب في تقرير مصيرها يبقى أقدس بما لا يقاس من أي حدود وطنية مرسومة على خرائط عرضة أصلًا للتغيير، متى قرّر اللاعبون المؤثرون استغلال تحوّلات معيّنة وإعادة صياغة وجه المنطقة.
تجري رياح مصالح الكبار في كثير من الأحيان بعكس ما تشتهي سفن شعوب حَكَمَ عليها التاريخ بـ “لعنة الجغرافيا”، أي بالتواجد فوق “فوالق” جيوسياسية قاتلة وسط محيط ديموغرافي معادٍ. إن المأساة الفعلية لا تكمن بغياب قرار دولي بتطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، إنما بعقلية إلغائية – عنصرية متزمّتة، تتحكّم بالوعي واللاوعي الجماعي لشريحة واسعة من الأكثرية، وهي لا تعترف بالآخر المتمايز ولا تقبل به مساويًا لها في الحقوق. وهذه العقلية المتجذرة في الوعي السياسي الأكثري في المنطقة، لا تستنبط حلولًا مبتكرة غايتها حرّية الإنسان وكرامته مهما كانت هويّته، بطبيعة الحال، إنما تنحو تلقائيًا في اتجاه فرض حكم مركزي قمعي لا يعترف بحقوق، بل يريد طاعة مطلقة.
لن يُخرج الحكم المركزي المستبدّ سوريا من مصائبها التي لا تحصى، بل سيُضاعفها بشكل هائل ويزيدها تعقيدًا، بينما باستطاعة الفدرالية مداواة “العقد الاجتماعي” الذي فكّكته الحرب الأهلية المُمدّد لها، وإعادة بنائه على أسس سليمة، ما يؤمّن استقرارًا مستدامًا، طبعًا إذا طُبّقت الفدرالية وفق حقيقة مقتضياتها. تعمل دمشق اليوم على توظيف الغطاء الإقليمي والدولي الذي تحظى به، لمحاولة فرض سلطتها على كامل التراب السوري. لكن “البيادق” التي يمتلكها النظام الجديد ويحرّكها على الأرض تفاقم المشكلات بدل معالجتها وتثير الفتن الطائفية عوض حماية السلم الأهلي. ولا يُستغرب هذا الأمر إطلاقًا، فلم يكن الخبراء ينتظرون تصرّفات وممارسات مختلفة عمّا يصدر عن قوات وزارتي الدفاع والداخلية، إذ كانت حتى الأمس القريب تنظيمات وفصائل جهادية وكّلت بسرعة البرق بمهامها الحالية.
تتشابه ممارسات قوات النظام الحالي مع تلك التي كانت تمتهنها قوات النظام السابق، من تنكيل وتعذيب وتجريد الإنسان من كرامته و”تعفيش” الأملاك الخاصة وحرقها وتدميرها، وتنفيذ إعدامات ميدانية ومجازر… ما يجعل المضطهدين يُطالبون بحمايات دولية. رغم رهان حكّام دمشق الإسلاميين على الدعم الخارجي لإطلاق مسار جديد وجذب الاستثمارات، إلّا أن هذا الإسناد المصلحي قد لا يدوم طويلًا حال فشلهم نتيجة التأزم الداخلي. وما يعقّد حسابات دمشق أكثر، دخول “العامل الإسرائيلي” بقوّة على خط الصراع المحتدم مع الدروز في السويداء. صحيح أن سوريا وإسرائيل تخوضان محادثات مكوكية لمعالجة خلافاتهما وتمهيد الطريق لعلاقات مستقرّة، بيد أن لتل أبيب حسابات ومصالح داخلية وإقليمية متشعّبة، تتصل بالمسألة الدرزية إلى جانب قضايا أخرى، ما أعاد خلط الأوراق.
بعدما تريّثت في بداية الصدام الدموي، ربّما عن قصد، وجّهت إسرائيل أكثر من رسالة تحذير، سياسية وعسكرية، إلى “سوريا الشرع”، وجدّدت رسم خطوطها الحمر حول الدروز وضرورة أن يكون الجنوب السوري منزوع السلاح، منفذة هجمات جوّية تصاعدية ضدّ القوات السورية في السويداء ودرعا وريف دمشق، وتوّجت رسائلها باستهداف محيط القصر الرئاسي ومقرّ وزارة الدفاع في دمشق، في وقت عزّز فيه الجيش الإسرائيلي عديد قواته على الحدود مع سوريا في خضمّ حال من الاحتقان والغضب في أوساط دروز إسرائيل، الذين عبر أفواج منهم الحدود نحو سوريا لمؤازرة إخوانهم في السويداء، رغم صعوبة الوصول إليها. ويواكب كلّ هذا الحراك الضاغط الزعيم الروحي لدروز إسرائيل الشيخ موفق طريف، الذي يتواصل مع القيادة الإسرائيلية في شأن السويداء ويُنسّق دعم دروز سوريا.
ورغم إعلان الداخلية السورية، على وقع الضربات الإسرائيلية، التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في السويداء يتضمّن 14 بندًا، بالتزامن مع إعلان مماثل للزعيم الدرزي الشيخ يوسف جربوع، رفض الزعيم الروحي لدروز سوريا حكمت الهجري الاتفاق، مؤكدًا استمرار القتال “حتى تحرير كامل تراب محافظتنا من هذه العصابات”. لكن واشنطن تضغط على كلّ الأطراف لوضع حدّ للصراع. وكان معبّرًا انتشار مقطعين مصورين زعم أنهما من السويداء، الأوّل يُظهر إسقاط العلم السوري الجديد والثاني يُظهر رفع العلم الإسرائيلي على سطح أحد المباني. هذه المشهدية تبرز مدى تشابك “المصالح الوجودية” بين دروز سوريا ودروز إسرائيل، ومدى تناقضها بين دروز سوريا ومحيطهم الأكثري. يخوض الدروز حربًا وجودية بالنسبة إليهم ضدّ القوات السورية، رافضين الخضوع لسلطة يقودها إسلاميون. ويرى الخبراء أن التدخل الإسرائيلي حسّن وضعيّة الدروز في المعادلة السورية الداخلية، بانتظار حلول جذرية للمأزق السوري قد لا تبصر النور، أو تغييرات في خرائط المنطقة أو تناسل أزمات جديدة.
وإذا كان دخول السويداء مكلفًا إلى هذا الحدّ ودفع واشنطن إلى دعوة دمشق إلى سحب قواتها منها، فكيف ستكون الحال مستقبلًا إذا ما قرّرت دمشق اقتحام مناطق سيطرة الكرد الشاسعة ومواجهة “قسد”، التي تعتبر بمثابة جيش منظّم أثبت فعاليّته القتالية العالية على مرّ السنين؟ ولا ننسى أن الجمر لا يزال تحت الرماد في الساحل السوري، فضلًا عن استبعاد النظام الوليد الكثير من الفصائل السنية من التركيبة السلطوية. تواجه دمشق تحدّيات جسيمة تصعّب عليها فرض سلطتها على كافة الأراضي السورية. وحتى إن سمحت لها الظروف في توسيع سطوتها بالقوّة العسكرية مع الوقت، فإن ذلك لن يُشكّل سوى حلّ موَقت ريثما تتبدّل موازين القوى وينقلب “الدولاب” مرّة أخرى. الحلّ الناجع ينطلق بتشييد نظام يعترف بالتعددية ويجسّدها بالدستور والقوانين وعلى أرض الواقع. عدا عن ذلك، ستغرق سوريا بمستنقع الاقتتال الطائفي أو الديكتاتورية، ما يُبقي أبوابها مشرّعة أمام تدخلات الخارج.