لماذا تريد واشنطن صواريخ «الحزب» الدقيقة فقط… وليس نزْع سلاحه بالكامل؟

لماذا تريد واشنطن صواريخ «الحزب» الدقيقة فقط… وليس نزْع سلاحه بالكامل؟

الكاتب: ايليا ج. مغناير | المصدر: الراي الكويتية
18 تموز 2025

لا تسعى الولايات المتحدة إلى نزْع سلاح «حزب الله» بالكامل، بل إلى هدف أكثر تحديداً وإستراتيجية، يتمثّل في إزالة صواريخ «حزب الله» الموجَّهة بدقة وطائراته المسيَّرة، وهي الأسلحة التي تشكل تهديداً مباشراً وحقيقياً للبنية التحتية العسكرية والمدنية لإسرائيل، أي أن الأمر لا يتعلق بتحييد الحزب ككل، بل بتفكيك الجزء الوحيد من ترسانته القادر على تغيير ميزان القوى الإقليمي.

وهذه السياسة ليست جديدة، لكنها ازدادتْ وضوحاً: فقد ركّزت الجهودُ الدبلوماسية، بقيادة المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان توماس براك، على ممارسة الضغط على المسؤولين اللبنانيين لتقليص قدرات الحزب العسكرية.

خطر الحرب الأهلية

وفي خطوة استفزازية للغاية، حذّر براك ليس فقط من خطر تجدُّد الحرب الأهلية، بل طرح أيضاً فكرة دمْج لبنان في كيان إقليمي أوسع، أي «بلاد الشام» أو سوريا الكبرى. ولم يكن هذا تحذيراً بقدر ما كان تهديداً سياسياً مبطناً يشير إلى استعداد واشنطن لاستغلال هشاشة لبنان إذا لم تُلبَّ مطالبها.

لا تريد الولايات المتحدة الفوضى في لبنان، لكنها مستعدّة لتحمُّل عدم الاستقرار إذا أدى ذلك إلى إضعاف حزب الله إستراتيجياً. فالطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة هي الوحيدة التي يمكنها الوصول إلى عمق الأراضي الإسرائيلية وتَجاوُز أنظمة الدفاع الصاروخي وتغيير تكلفة المواجهة. ولن تؤدي إزالتها إلى تحييد الحزب تماماً، ولكن ذلك سيؤدي فعلياً إلى نزع سلاحه الرادعي.

وبينما تستمر المفاوضات الدبلوماسية، تتشكل رواية أكثر تَقَلُّباً وإثارة للقلق في الساحة الداخلية اللبنانية، مفادها بأن هناك أطرافاً تتحدث عن تجهيز آلاف المقاتلين.

وخرجت تصريحات اعتبرت إشارات مدروسة تهدف إلى إبراز القوة وتشكيل الرأي العام، ووضع هذا الطرف في موقع الميليشيا المستعدة لملء الفراغ في حال تَعَثُّر المؤسسات الوطنية.

لكن هذه الخطوة مدروسة لمحاصرة «حزب الله»، فإذا كان جميع الأطراف مسلّحين، فيمكن القول إن على الجميع تسليم سلاحهم. وما يكمن وراء هذه المناورة ليس مجرد صراع على الأسلحة. ققد يكون هذا مظهراً لتوتر طائفي وسياسي أعمق بكثير وغير محلول.

وهناك خوف متزايد بين النخب السياسية المسيحية في لبنان من أنه في ضوء تَغَيُّر التوازن الطائفي، ستواجه دعوات لمراجعة ترتيب تَقاسُم السلطة الدستوري، أي الدفع نحو التمثيل النسبي على أساس التركيبة السكانية، وهو ما من شأنه أن يحرم المسيحيين امتيازاتهم المؤسساتية.

لكن «حزب الله» يَعي هذا الفخ. فقيادته تدرك أن التخلّي عن أسلحته الاستراتيجية لن يؤدي إلى السلام أو التكامل بل إلى التهميش السياسي. فإذا تم نزع سلاح الحزب، سيَجْري دفعُه إلى قالب حزبٍ تقليدي ومُجَرَّدٍ من قوته الرادعة، وعرضة للمنافسين الداخليين وللتهديدات الإقليمية، وتالياً فهو لن يواجه عزلةً سياسيةً فحسب، بل سيواجه أيضاً خطر الفراغ الأمني في الجنوب، حيث يمكن لإسرائيل أن تتصرّف بانضباط أقل بكثير. والولايات المتحدة على بيّنة كاملة من هذه الديناميات.

… إنها لعبة خطيرة. فإذكاء الحديث عن الميليشيات، والتشجيع الهادئ للقوات المسلَّحة الموازية، والتحذيرات الأجنبية المتكررة من الحرب الأهلية، كلها عوامل تدفع لبنان إلى حافة الهاوية، وقد تكون العواقب كارثية.

فقد عاش لبنان بالفعل حرباً أهلية واحدة عام 1975، ولا تزال ذكرى ذاك الصراع تُحَدِّد سياساته، ولا يمكن للبلاد أن تتحمّل حرباً أخرى. ومع ذلك، فإن المسار الحالي – حيث تضغط الولايات المتحدة على حزب الله للتخلي عن رادعه الوحيد مع التسامح مع الخطاب المسلّح من خصومه – ينطوي على مخاطر إيجاد الظروف نفسها التي قد تُشْعِل الصراعَ مرة أخرى.

وما يتكشف ليس خطة للسلام، بل سياسةُ إكراهٍ مُتنكرة في زي الدبلوماسية. والهدف ليس حل مشاكل لبنان، بل إزالة تهديدٍ لأمن إسرائيل بأي وسيلة سوى الحرب المباشرة. أما الضرر الجانبي فهو لبنان نفسه.

ما الأولويات الحقيقية للبنان؟

قد تُهيمن أسلحة «حزب الله» على عناوين الأخبار، لكنها ليست التحدي الوحيد – أو حتى الأكثر إلحاحاً – الذي يواجه لبنان. فبينما تُرَكِّز الولايات المتحدة والقوى السياسية المُناهضة للحزب على نزع سلاحه، لا تزال مجموعة أوسع من القضايا الوطنية العالقة تُهَدِّد سيادة لبنان وأمنه واستقراره.

وفي طليعة هذه القضايا، يأتي العدوان العسكري الإسرائيلي المستمر وانتهاكاته المتكررة للسيادة اللبنانية – جواً وبحراً وبراً.

وما زالت القوات الإسرائيلية متمركزةً في مناطق عدة محتلة، بما في ذلك التلال الخمس التي سيطرتْ عليها حديثاً، والجزء الشمالي من قرية الغجر، ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا المتنازَع عليها منذ فترة طويلة. كما أن مسألة ترسيم الحدود البرية والبحرية لم تُحلّ بعد، وهي موضع نزاع عمره عقود.

مياه «الوزاني»

وفي موازاة ذلك، لا يزال حقّ لبنان في حصّته من نهر الوزاني – والتي تُقدَّر بـ 43 مليون متر مكعب سنوياً – محطّ نزاع. وقد اعترضت إسرائيل حتى على ضخ لبنان المتواضع لـ 4 ملايين متر مكعب فقط، ما حوّل مورداً وطنياً إلى بؤرة اشتعال أخرى.

وما يزيد الأمر تعقيداً أن بيروت لا تزال تطالب بالإفراج عن جميع الأسرى اللبنانيين الذين أُسروا خلال حرب 2024، في الوقت الذي تبقى «بلاد الأرز» أيضاً مثقَلة بأعداد هائلة من اللاجئين، بمن فيهم أكثر من 1.5 مليون نازح سوري، تُعارِض الولايات المتحدة عودتَهم إلى سورية، وتصرّ على استمرار إعادة توطينهم المؤقت في لبنان، وهي سياسة تفرض ضغوطاً لا يمكن أن يتحمّلها الاقتصادُ المحلي والبنية التحتية.

توطين اللاجئين الفلسطينيين

وبالمثل، لا تزال إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين خطًا أحمر للعديد من الفصائل اللبنانية. وتصرّ إسرائيل على حرمان الفلسطينيين حق العودة وتضغط على الدول المضيفة، بما فيها لبنان، لتجنيسهم بشكل دائم، وهو موقف يتعارض بشكل مباشر مع قرارات مجلس الأمن الدولي ويهدد التوازن الطائفي في لبنان.

وأخيراً، مُنع لبنان من تلقي مساعدات إعادة الإعمار لإعادة بناء البنية التحتية التي دُمرت خلال حرب 2023 – 2024. ورغم المليارات التي تَعَهَّدَ بها المانحون الدوليون، فإن الشروطَ السياسية التي فرضتْها القوى الغربية، والتي غالباً ما ترتبط بنزع سلاح الحزب أو الامتثال للمطالب الأميركية – الإسرائيلية، أوقفت أو أعادتْ توجيه الأموال، ما ترك مناطق بأكملها في حال من الدمار.

والسؤال الحقيقي بات، هل سيبقى لبنان دولةً ذات سيادة أم سيصبح ساحة هشة ومُتلاعَباً بها حيث تُملى السلطة من الخارج؟

لا تريد الولايات المتحدة نزع سلاح «حزب الله» لأنها تؤمن بلبنان منزوع السلاح، بل تريد إزالة الصواريخ لأنها تهدّد هيمنة إسرائيل وحرية تَحَرُّكها في الشرق الأوسط… وفي الوسط يُترك الشعب اللبناني مُحاصَراً.