
إن تكرّرت “هدية السويداء” في لبنان، ما الذي سيأتي به براك؟
مخاوف جدية من تكرار التجربة السورية الأخيرة بعد “لقاءات باكو” وما يمكن ان تشهده الساحة اللبنانية ان لم تتوفر الأجواء انتظارا لزيارة براك. والى اتلك اللحظة هل هناك من يستغرب تكرار مشهد مبنى رئاسة الأركان في سوريا في مشهد مماثل في لبنان؟
لم تحجب التردّدات التي تركتها أحداث السويداء المخاوف من طبيعة المسار الذي تسلكه المفاوضات مع الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك قبيل عودته إلى بيروت مطلع الاسبوع المقبل. لا بل فإنّ ما رافقها يزيد المخاوف من أن تكون “بروفا إسرائيلية” تحظى بموافقة الولايات المتحدة الأميركية المسبقة لتصعيد مماثل، إن حظي بهدية ثمينة كـ “هدية السويداء”، لتبرّر تل أبيب اعتداءاتها، في سيناريو مشابه لما حصل في دمشق. وعليه، هل انّ هذه المخاوف في محلها، وما الذي يبررها؟
لا تتردّد مراجع ديبلوماسية وسياسية في التخوف من حال استمرار التردّد اللبناني في التجاوب مع المخارج المطروحة، للانتقال من مرحلة الاستنزاف الحالية إلى أخرى أكثر وضوحاً ودقة. فالأخذ والردّ بين الجانبين اللبناني والأميركي في الزيارتين الأخيرتين لبرّاك، كانتا كافيتين للدخول إلى عمق المسائل المطروحة والإقدام في الإجماع اللبناني المتوافر على مستوى أهل السلطة، على خطوات تريح الداخل وتنهي المخاوف المتنامية يوماً بعد يوم. ومصدر هذه المخاوف، أنّ الوضع في المنطقة هو أكثر خطورة مما يجري في لبنان، وأنّ ما يمكن لجمه على الساحة اللبنانية أسهل بكثير من أي خطوة إيجابية يمكن الركون إليها في سوريا والمنطقة. فالحلول لمجمل التعقيدات والأزمات التي تناسلت وتشعبت إلى الحدود القصوى ممكنة في حالات مماثلة، كتلك التي نشأت وتفاعلت بسرعة قياسية تغيّرت فيها وجوه كثيرة، وانتفت معها أدوار مجموعات عسكرية وجهادية إقليمية وداخلية، وسقطت أنظمة واهتزت أخرى. وهي تطورات لم يكن يحتسبها كثر في المرحلة القصيرة التي شهدت على تحولاتها. ولكنها ما زالت في اعتقاد البعض خارج أزمات لبنان الداخلية التي يمكن معالجتها، بما يكفل إبعاده عن كل المتغيّرات الخارجية ودفعه في طريق تؤدي إلى التعافي والإنقاذ، أياً كانت الظروف الجارية في محيطه.
وتلفت المراجع نفسها، إلى انّ المتغيّرات الكبرى في سوريا لم تكن لها التردّدات الكبرى على لبنان. وهو أمر ثابت لا نقاش فيه. وإن دخلت في التفاصيل تقول إنّ أحداث الساحل السوري وبعدها أحداث السويداء بعد درعا ومحيطها، لم تنعكس على لبنان، بعدما أكّد القادة اللبنانيون قدرتهم الهائلة على لجم التوتر بين القوى الداخلية التي تتأثر تلقائياً مع الأحداث السورية، وبقيت ردّات الفعل محصورة بالتأييد السياسي والشعبي بعيداً من المخاطر المقدّرة، لو انعكست الصدامات المذهبية والعشائرية الدموية الفظيعة التي حصلت هناك على مثيلاتها اللبنانية. وإن سجلت بعض ردّات الفعل التصعيدية، فقد بدت سخيفة بما عبّرت عنه وانتهت إليه، مَن سعى إلى تأكيد حضور مجموعات صغيرة لا تؤخّر ولا تقدّم في مسار الأمور، إلى درجة قال فيها مطلعون من مواقع المسؤولية الحزبية، إنّ أصواتها اكبر من حناجرها ورؤوسها معاً.
على هذه الخلفيات، تكثفت الاتصالات على مستوى أهل الحكم للردّ على الرسالة الأميركية الجديدة التي تبلّغها لبنان، بغية صوغ ردّ أولي يريده برّاك قبل عودته إلى بيروت، خصوصا انّه اعتاد في الفترة التي فصلت بين زيارتيه الأخيرتين، على أن يكون طرفاً في مراجعات عدة، اعتُبرت دقيقة جداً. بحيث انّه حضر إلى بيروت مطلع تموز الجاري، وهو على علم مسبق بحجم التحولات الخفيفة في الموقف اللبناني والعقبات التي تحول دون ما هو مطلوب من إجراءات، بفعل وجود من ينغص هذا الإجماع ولا يجعله مكتملاً، ولو كان وحيداً على الساحة اللبنانية، ليس لهدف سوى انتظار متغيّرات قد لا تأتي، وخصوصاً بما قد يؤثر على مصير السلاح غير الشرعي.
ويعترف البعض انّ جميع المترددين والواثقين، باتوا على يقين بأنّ القرار بإنهاء وجود أي سلاح غير شرعي لم يعد للنقاش، ولولا التردّد الذي عبّر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري في المذكرة التي سلّمها إلى برّاك باسم “الثنائي الشيعي”، والتي لم تتنكر لصدور القرار النهائي بإنهاء وجوده خارج مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وجاء تمنيه بإجراء مراجعة في المهل على طريقة “الخطوة مقابل خطوة”، إن كان ذلك ممكناً، ليدفع إلى الانتظار لبعض الوقت. وإن صدقت التسريبات بأنّ ورقة برّاك الجديدة لمحت إلى هذه المعادلة، فإنّ النقاش يجب ان ينتهي مطلع الاسبوع المقبل حول الجدول النهائي لعمليات تسليم السلاح وآلية جمعه وطريقة تخزينه، إلى ما هنالك من الإجراءات الضرورية، بما فيها إتلافه إن لم تكن بعض انواعه صالحة للدمج بأسلحة الجيش والقوى الأمنية الشرعية.
وعلى هذه الخلفيات، ما زالت أجواء المتفائلين تطغى على الاستعدادات للقاء مع برّاك، وإن فهم المعترضون ثمن التردّد في اتخاذ القرارات الجريئة لفترة من الزمن التي افتقد فيها اللبنانيون القوى العسكرية الشرعية وحضرت المجموعات التي تدير مناطق مقفلة على الدولة ومؤسساتها في أكثر من بقعة. ومردّ هذا التفاؤل، أنّ على اللبنانيين أن يقتنعوا انّ ما جرى في دمشق ومناطق سورية مختلفة قد يكون “بروفا” يُحتمل ترجمتها في لبنان. وكما لم تفصل إسرائيل بين المجموعات المسلحة التي هاجمت القرى الدرزية والقوى الشرعية للنظام السوري الذي كان له ما يمثله على “طاولة باكو” قبل أيام قليلة، فإنّ تل أبيب لم تعد تفصل منذ مدة بين أي قوة مسلحة في لبنان والقوى الشرعية ومؤسسات الدولة، إن لم تلتزم بقرار حل نفسها، لإعفاء الدولة من مسؤولياتها تجاه ما انتهت إليه الحرب من هزيمة تبنّتها حكومة تصريف أعمال قبل أن تورثها للعهد الجديد. فبات الجميع في سلة واحدة. وأي مركز او مخزن أسلحة للحزب قد يكون هدفاً مماثلاً لأي مؤسسة او منشأة رسمية مدنية أو خدماتية كانت أم عسكرية.
وبناءً على كل ما تقدّم، يبدو واضحاً انّ لبنان يستعد جاداً لاستقبال برّاك لمرّة ثالثة، كما فُهم من لقاء بعبدا أمس بين الرئيسين عون وبري، وإن لم يكن حاضراً للتجاوب فستأتي الأيام بما لا يتمناه احد. فالمهل قصيرة وهامش المناورة ضاق إلى الحدود القصوى، وساعة الصفر لاحتساب نهايتها ستبدأ فور مغادرة برّاك الأراضي اللبنانية هذه المرّة.