برّي بين واشنطن و “الحزب”: مسار بدأ مع رحلة “TWA 847”

برّي بين واشنطن و “الحزب”: مسار بدأ مع رحلة “TWA 847”

الكاتب: د. جوسلين البستاني | المصدر: نداء الوطن
21 تموز 2025

في حزيران 1985، أقدم عناصر من “حزب اللّه” على اختطاف طائرة الركّاب التابعة لشركة TWA، الرحلة رقم 847، التي كانت في طريقها من أثينا إلى روما، وأجبروها على التوجّه إلى بيروت. في اليوم الثالث من عملية الاختطاف التي دامت 17 يومًا، أقدم الخاطفون على إعدام جندي في البحرية الأميركية يُدعى روبرت ستيثيم داخل الطائرة، بعد تعرّضه للضرب والتعذيب، (وفقًا للموقع الرسمي لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI). وفي وقت لاحق، ألقوا جثته على مدرج مطار بيروت الدولي، في خطوة كانت تهدف إلى الضغط على الولايات المتحدة لتلبية مطالبهم المُتعلّقة بالإفراج عن سجناء لبنانيين مُحتجزين في إسرائيل.

لعب نبيه بري، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير العدل، دورًا مِحوريًا ومُثيرًا للجدل في هذه القضية. فعلى الرغم من عدم تورّطه المباشر في التخطيط لعملية الاختطاف، غير أنه استغلّ موقعه الرسمي لتقديم نفسه أمام الحكومات الغربية كشخصية “قادرة” على احتواء العناصر المُتطرّفة. وقد ساهم هذا الدور في تكريس نفوذه السياسي ضمن واقع لبناني اتّسَم بالفوضى، وفي تلميع صورته دوليًا، وذلك على حساب مُساءلة الجهة الخاطفة ومُحاسبتها.

وقد كشفت المُذكرات الداخلية لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وعدد من برقيات مجلس الأمن القومي، بالإضافة إلى وثائق رُفعت عنها السرية من غرفة العمليات في البيت الأبيض، عن تعليقات مُفصّلة حول دور نبيه بري بوصفه “وسيطًا” خلال أزمة اختطاف طائرة TWA. إذ أظهرت هذه الوثائق أن بري لم يكن مُجرّد طرف خارجي سعى إلى حلّ الأزمة، بل كان يُنظر إليه داخل الدوائر الأمنية الأميركية كجزء من البيئة السياسية التابعة للميليشيات المُتورّطة في العملية.

كما تؤكد برقيات متُعدّدة أن حركة “أمل”، بقيادة بري، كانت تفرض سيطرتها على مناطق أساسية في بيروت الغربية، بما في ذلك مدرج مطار بيروت الدولي، الذي حطّت فيه الطائرة المخطوفة. بالتالي، ظهوره كـ “وسيط مُعتدل” كان موضع شكّ داخل الإدارة الأميركية، التي رأت في تحرّكاته محاولة لِفرض نفسه لاعبًا لا يُمكن تجاوزه، دون أن يُحمّل فعليًا أي مسؤولية عن انتهاك القانون الدولي أو عن الدور التمويهي الذي أدّاه لِمصلحة الجهة الخاطفة. وقد تكرّر توصيف نبيه بري كـ “وسيط فعّال لكن مراوغ”، في مذكرة صادرة عن مكتب الاستخبارات والبحوث في وزارة الخارجية الأميركية (INR) بتاريخ 9 تموز 1985.

وتُشير مذكرة استخباراتية أخرى، إلى أنه كان مدفوعًا بِقناعة مَفادها أن نجاحه في هذا الرهان سيُشكّل انتصارًا سياسيًا كبيرًا له. والمُفارقة أن تقييمات أميركية داخلية أكّدت أن من مصلحة واشنطن أن ينجح بري في مسعاه، نظرًا لغياب أي بديل أفضل للتفاوض خلال الأزمة.

باختصار، كرّس نبيه برّي دوره كوسيط بين المجموعات المتطرّفة وواشنطن، خلال أزمة اختطاف طائرة TWA، مع الحفاظ على هامش من “الإنكار المعقول”، أو هكذا ظنّ. وقد واصل اعتماد هذه الاستراتيجية على مدى العقود التالية، حتى في محادثاته مع المبعوث الأميركي توم برّاك الذي التقاه في تموز 2025. وقد كشفت تصريحاته العلنية لاحقًا عن حرصه على تجنّب الالتزام بأي اتفاق نهائي، وكأنّ لبنان يُفاوض من موقع قوة، بانتظار الحصول على حوافز سياسية أو اقتصادية تُمكّنه من إقناع “حزب اللّه” بالامتثال للمقترح الأميركي، مع الحفاظ في الوقت نفسه على دوره المِحوري.

ولأنّ أولوية برّاك تتركّز بوضوح على منع اندلاع حرب شاملة بين “حزب اللّه” وإسرائيل، استغلّ نبيه بري الحرص الأميركي على ضبط التصعيد، من خلال تبنّي استراتيجية “الغموض البنّاء” القائمة على لغة دبلوماسية حذِرة تُتيح له الإبقاء على مساحة واسعة للمناورة. فهو يتجنّب حشر الدولة اللبنانية في مواقف قد تُعتبر استفزازية لـ “حزب اللّه”، وفي الوقت نفسه لا يذهب إلى حدّ تخييب آمال واشنطن، التي بدأت تنظر إليه منذ مدّة كمُعرقل استراتيجي يُصرّ على التحكّم بمسار المفاوضات، ويستخدم منصبه لعرقلة الإصلاحات وحماية هياكل السلطة الطائفية.

لذلك، تبدو صورة نبيه برّي كـ “وسيط لا غنى عنه”، التي تكرّست خلال أزمة اختطاف طائرة TWA، في طريقها إلى التآكل، خصوصًا في ظلّ تمسّكه بموقف علني مُلتبس حيال نتائج مفاوضاته مع “الحزب”، الذي لم يُبدِ أي تجاوب صريح مع وساطته. بل إن أمينه العام شدّد على رفض تسليم السلاح في مواجهة ما وصفه بـ “خطر وجودي” يتهدّد لبنان.

وهكذا ساهم موقف “حزب اللّه” في تقويض الدور الذي احتكره رئيس المجلس لِعقود، مُحوّلًا إيّاه إلى رسول يفتقر إلى النفوذ الحاسم، لا سيّما بعد فشله حتى الآن في تحقيق المطلب الأميركي الرئيسي: إقناع “الحزب” بتسليم سلاحه.

هل ما زال بري يُراهن على موقعه كوسيط بين واشنطن و “حزب اللّه” بهدف كسب الوقت؟ الجواب لدى إدارة دونالد ترامب إن كانت ترى فيه شريكًا موثوقًا، أو عقبة تُفكّر في تجاوزها، بعدما استنفد ما تبقّى من رصيد الصبر الأميركي.