
تقسيم سوريا (ولبنان) يبدأ من السويداء؟ بين الوحدة والانفصال: الدروز وحرب الوجود
فجّرت أحداث السويداء في سوريا كل الأحقاد التي كانت راقدة أو مدفونة أو غير ظاهرة ودفعت بها مرة واحدة إلى الواجهة، بحيث صار معها السؤال الذي يفرض نفسه يتعلّق بمصير الدولة السورية والمنطقة كلها ومن ضمنها لبنان. لأنّه لا يمكن فصل ما يحصل في سوريا عمّا يحصل في لبنان وإسرائيل. فسوريا بعد أحداث السويداء لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبلها. ورئيسها أحمد الشرع بعد هذه الأحداث ليس الشرع الذي كان قبلها. ثمة مشهد يتغيّر وخطوط تماس كثيرة ترتسم بالنار والسلاح والدم والأحقاد.
في 9 كانون الأول 2024، انهار نظام آل الأسد في دمشق. اليوم بعد أقلّ من ثمانية أشهر فقط، تعيش سوريا مرحلة سقوط الدولة والجمهورية الواحدة بعد سقوط النظام. كأنّ بشار الأسد كان آخر رئيس للجمهورية السورية التي تكوّنت منذ العام 1925. وكأنّ الرئيس الحالي أحمد الشرع يقف عند مفترق خطير يتعلّق، ليس بمصيره وحده، بل بمصير الجمهورية. في ظل كل هذه التطورات الدراماتيكية يصير الشرع آخر رموز هذه الوحدة مع كل الظروف التي رافقت وصوله إلى القصر الجمهوري في دمشق. ويصير السؤال المحوري: هل مصير سوريا اليوم متعلّق أيضًا بمصير الشرع؟ هل غياب الشرع، مثلًا عن المشهد السوري، ينهي الدولة السورية ويفجّر كل الأحقاد ويعيد تشكيل خطوط التماس الداخلية ويشعل حروبًا أهلية لا يمكن أن تنتهي بسهولة؟
سرعة قياسية في الصعود والهبوط
بسرعة قياسية ارتقى الشرع إلى سدّة الرئاسة. وبسرعة قياسية يكاد عهده أن ينتهي. سلسة كوارث بدأت تهزّ بلاد الشام. لا الشرع قادر على مواجهتها. ولا سوريا الموحدة قادرة على احتمالها. من “أبو محمد الجولاني” في العراق، ثمّ في سوريا وإدلب، إلى أحمد الشرع في قصر المهاجرين في دمشق. لم يكن الشرع نفسه يحلم بأن ينتقل خلال أيام، بين تشرين الثاني وكانون الأول 2024، من مجرّد مطلوب للعدالة الدولية ومتّهم بالإرهاب، وموضوع على لائحة العقوبات الأميركية، إلى رئيس الجمهورية السورية. ولم يتوقّع أن يصير المطلوب رقم واحد من أجل التسوية مع إسرائيل وإعادة رسم الخرائط السياسية والديموغرافية في الشرق الأوسط. ولكنّ الشرع نفسه، وغيره أيضًا من رؤساء الدول التي انفتحت عليه وراهنت على دوره، لم يتوقّعوا أن يلتقيَه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المملكة العربية السعودية بدعوة من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 14 أيار الماضي، وأن يعلن ترامب بعد هذا اللقاء مباشرة رفع سوريا عن لائحة العقوبات. وهؤلاء كلّهم ربّما لم يتوقّعوا أن يصير الشرع في 15 تموز الحالي واقفًا في وسط الأزمة التي تفجّرت في السويداء عاجزًا عن المضي في المواجهة غير المحسوبة النتائج، وعاجزًا أيضًا عن التراجع والانكفاء تحت التهديد الإسرائيلي. بدا الرئيس الذي كان العالم يراهن عليه، وكأنّه فقد الكثير من دوره. وأكثر من ذلك بدا وكأنّ حكمه ينهار، وأنّ عهده ينتهي قبل أن يبدأ، وأن سوريا تتمايل قبل السقوط.
غابة من السلاح
تسلم الشرع دولة بلا جيش وبلا مال وموازنة، وبلا مؤسسات. كل شيء كان انهار وكان عليه أن يبدأ من الصفر. ومن اللحظة الأولى كان واضحًا أنّ الأزمة أكبر من الرجل الذي صار الأول في سوريا وأنّ المطلوب منه الكثير، وأنّه عاجز عن تلبية كل هذه الطلبات التي تبدأ بكرسي الرئاسة وتنظيف القصر الجمهوري، ولا تنتهي بفرض توقيع اتفاقية سلام أو تطبيع مع إسرائيل. بدا الرجل كأنّه يسير في حقل ألغام. وقد انفجر فيه اللغم الكبير في السويداء. انفجار أزمة السويداء كشف عمق الأزمات السورية بحيث ظهر وكأنّ سوريا بدل أن تسير في درب الوحدة واستعادة الجمهورية تتحوّل غابة من السلاح والعشائر والقبائل والمتاهات وخطوط التماس، وأن “الشعب الواحد في الأمة الخالدة” صار شعوبًا في أمة آيلة إلى السقوط.
على رغم حكمه سوريا بقبضة حديدية منذ العام 1969 لم يتمكّن حافظ الأسد من توحيد الأمة. كانت الوحدة ممسوكة وغير متماسكة. وكانت السجون السورية ومراكز التعذيب في معتقلات أجهزة المخابرات الكثيرة وقدرة الجيش على التدخل في سوريا وفي لبنان هي التي تثبت استمرار الدولة. كان من الممكن أن ينهار هذا النظام مع وفاة الأسد الأب في 10 حزيران 2000 ولكن كُتب له عمر جديد هجين مع ابنه بشار. منذ خروج جيشه من لبنان عام 2005 بدا وكأنّه دخل مرحلة الأفول. اعتقد أنّه عصي على التغيير، وأنّ الربيع العربي توقّف عند أبواب دمشق، ولكنّه في 15 آذار 2011 بدأ يشهد سقوط الدولة والنظام.
تفكك الدولة السورية
على مدى 14 عامًا من الصراعات الداخلية تفكّكت أواصر الدولة السورية الأمنية والعسكرية والاجتماعية والدينية، وتحوّلت الوحدة الداخلية إلى مجرّد شعار من الماضي. لم يكن فرار الأسد في 9 كانون الأول الماضي إلا نهاية تلك المرحلة من التفكّك. جاء الشرع إلى الحكم ليعيد رسم خريطة وحدة سورية جديدة. ولكن ظهر سريعًا أنّه يقوم بمهمة مستحيلة، وأنّ التفكّك آخذ في التبلور على الأرض. فهو لم يتعاطَ مع الأزمة التي ورثها على قاعدة نسج التسويات الداخلية مع القوى الفاعلة والمؤثرة والتي اشتركت في إسقاط النظام السابق على أساس أنّها شريكة في صناعة هذا الانتصار وفي رسم مستقبل سوريا، بل تصرّف وكأنّه المنتصر الوحيد. لم يكن من المقبول من مكوّنات الشعب السوري الأخرى أن يرتدي الحكم الجديد في سوريا لباس “بني أمية”.
عندما دمّر مسلحون تابعون للسلطة الجديدة في سوريا، من المفترض أنّهم قوى الشرعية، تماثيل رمز سوريا الوطني سلطان باشا الأطرش، وعندما داسوا على صوره وسمّوه سلطان باشا الأعرص، كان الدروز أيضًا يقفون عند مفترق طريق خطير بين أن يستمرّوا في الحفاظ على انتمائهم للوطن السوري الذي يؤمّن بقاءهم ودورهم واستمراريتهم وأمانهم، أو أن يذهبوا في اتجاهات انفصالية طالما يُعاملون وكأنّهم غير سوريين أو دخلاء على العهد الجديد و”الأمة الأموية”. أمامهم نظام لا يؤمّن بقاءهم. ووراءهم إسرائيل التي تعرض حمايتهم. مثلهم مثل الأكراد أو العلويين في الساحل، كان يمكن أن يقبلوا بالحفاظ على دور داخل السلطة الجديدة يؤمّن مشاركتهم في القرار والسلطة ولكنّهم وجدوا، على ما ظهر، أنّ المعروض عليهم هو الطاعة والاستسلام وتقديم الولاء.
دروز الندم على السلطان الضائع
لا شكّ في أنّ دروز سوريا عندما تعرّضوا للقتل في إدلب عام 2015، وجرت محاولات لإعادتهم إلى الدين الإسلامي الصحيح، وعندما بدأت المواجهات معهم في العهد الجديد، في جرمانا وأشرفية صحنايا قرب دمشق، قبل أن تنتقل إلى محافظة السويداء، قد عاشوا مرحلة من الندم على الماضي غير البعيد. ها هم اليوم في تموز 2025 يواجهون القدر الذي رفضوه في تموز 1925. مع سلطان باشا الأطرش رفضوا تقسيم سوريا وأن تكون لهم دولة درزية. كانت الفرصة متاحة لهم ورفضوها. ربما يريدونها اليوم ولكنها قد تكون مهمة انتحارية وغير متاحة وغير ممكنة.
على مدى تاريخ الجمهورية السورية ومع كل الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في دمشق كانت المشكلة الدرزية قائمة. لم يمرّ عهد من دون التعرّض للدروز في السويداء وكأنّهم على هامش الجمهورية. حملات عسكرية واقتحامات وقصف بالطيران. من عهد أديب الشيشكلي إلى عهد أمين الحافظ والبعث وصولًا إلى عهد الأسدين. فجأة وجد الدروز أنفسهم في هذه المواجهة أمام الرهان على إنقاذ يأتيهم من إسرائيل. هذا ما فعله نتيناهو بعد بدء الحملة التي نفّذتها قوات النظام ضد الدروز.
رهانات خاطئة
الشرع الذي كان يراهن على لقاء مع ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض يضعه على سكة السلام داخل سوريا وفي الشرق الأوسط، وجد نفسه فجأة في صراع مصيري مع من كان يريد توقيع السلام معه. أجبره التدخل الإسرائيلي على سحب قواته من السويداء. ولكنه ذهب في اتجاه تجاوز هذا القرار عن طريق استخدام ميليشيات النظام تحت مسميات كثيرة، من العشائر إلى البدو، في ما بدا وكأنّه حملة دينية جديدة تشعل النار في الهشيم السوري بين الطوائف والمذاهب والقوميات.
لم يكن من الممكن أن يبقى لبنان بمنأى عما يحصل في سوريا. دروز لبنان متضامنون مع دروز سوريا المتضامنين مع دروز إسرائيل وتحميهم إسرائيل. مؤيّدون لحكومة الشرع يتظاهرون في لبنان ضد الدروز. في ظل هذه الأزمات المتفجّرة تنتظر واشنطن وإسرائيل ردًّا لبنانيًا رسميًا حول مطلب نزع سلاح “حزب الله”. في مثل هذه الأوضاع قد يكون لهذا السلاح دور آخر في إعادة رسم الخريطة السياسية والأمنية في لبنان وفي سوريا. أن يبدأ تقسيم سوريا من السويداء والجولان فهذا لا يعني أنه لن يمتد إلى لبنان.