
الدروز وجهًا لوجه مع الشيطان… والمسيحيون يحدّقون بعيونٍ لا ترى
حين اقتحم ياسر عرفات ببوسطته عين الرمانة، لم يكن يشقّ طريقه إلى صفد، المدينة التي اقتُلع منها عام النكبة. ولم يكن صلاح خلف، حين رفع شعار “طريق القدس تمرّ في جونية”، يمضي نحو يافا، مدينته التي أُلقي منها إلى المنافي.
حرّر الرجلان بنادقهما من التزامها الأوّل، في انزياحٍ مأسوي عن بوصلتهما المفترضة فلسطين، واستبدلا قتال إسرائيل، بمنازلة المسيحيين، في مسلسل دموي طويل، ربّما كان من أسوأ ما سجّلته ذاكرة المنطقة من مآسٍ.
نصّبت “منظمة التحرير” نفسها قوةً عسكريةً فوق الدولة. حملت السلاح بلا شرعية، وأطلقت النار باسم القضية، وحاصرت الأحياء والبلدات والمدن اللبنانية، وكأنّها معسكرات عدوّة.
في لحظة انكسار، طلب اليمين المسيحي دعماً من إسرائيل بالإكراه، تخلّى المسيحيون عن رفاههم الذي بنوه حجراً حجراً، واندفعوا ككيانٍ مهدّد بالاجتثاث، إلى حربٍ وجودية، لا تُتيح ترف التجريد النظري، في وقتٍ اصطفّت فيه طوائف لبنانية بأكملها تحت لواء “أبو عمّار”، انسجامًا مع منطق السطوة الطائفية الحادّة الأطراف.
هكذا، وجد المسيحيون أنفسهم، وجهاً لوجه مع الشيطان: إسرائيل!
في لحظة انكسار، استجدى اليمين المسيحي دعماً من تلّ أبيب، دعمًا لم يصنع لها قداسةً، ولم يمنحه خلاصًا، إنّما كان حلًا موقتًا، يشبه هدنةً بين موتين!
بعد نصف قرن على ذلك التقارب المدوّي بين مسيحيي لبنان والشيطان، وجدت طائفة الموحّدين الدروز في سوريا نفسها وجهًا لوجه مع الشيطان ذاته: إسرائيل! ولا عجب… ففي لحظات السقوط الحرّ، يتحوّل الوطن إلى فخّ محكم، ويغدو الانزلاق نحو المستحيل فعلًا عقلانيًا.
فرّ موحّدو سوريا إلى وكر الضبع، هرباً من الصيّاد السوري… ومن الخذلان. تمامًا، كما فرّ مسيحيو لبنان قبلهم إلى الوكر ذاته، لا اتّكاءً عليه، بل اتّقاءً لصيادين كثر كانوا تربّصوا بهم.
تباعدٌ في الزمان والمكان بين التجربتين المسيحية والدرزية، وتقاربٌ في المأساة، فيما الخلاص يبدو بعيدًا.
ففي السويداء، قُتل خلال أسبوعٍ واحدٍ أكثر من ألف درزي، قبل أن يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، برعاية أميركية وأردنية.
لكن، هل تملك هذه الهدنة ما يكفي من الهواء لتصمد؟
يخيّم الصمت على الدوائر الروحية للدروز في سوريا، على رأسها أوساط الشيخ حكمت الهجري. صمتٌ لا يُطمئن، ولا يُفكّك الغموض.
ما تتكتّم عليه المرجعيات الرسمية للموحّدين، تهمس به مصادر دبلوماسية أوروبية من الضفّة الأخرى للمتوسّط. يسأل دبلوماسي معتمد في المنطقة: هل تصمد الهدنة؟ أم يجب أن يُسأل أولًا كم من الوقت يُمكن لأحمد الشرع نفسه أن يصمد؟
وقف إطلاق النار في السويداء، ليس سوى هدنة فوق رمادٍ يقول الدبلوماسي: الشرع رئيس على بعض أحياء دمشق. والميليشيات المسلّحة تسرح وتمرح في المساحات السورية التي لا تخضع مباشرةً للوصاية الأميركية أو التركية أو الإسرائيلية. أمّا الحديث عن “قوات حكومية”، فمجرّد ظلّ لغوي لسلطة لا ظلّ لها على الأرض.
برأيه الدولة الراهنة كما يعرفها السوريون، ليست أكثر من غطاءٍ رخوي لميليشيات تجيد القتل، وتوقّع مجازرها باسم الله أو الثورة، أو كليهما معًا. أمّا وقف إطلاق النار، فليس سوى هدنة فوق رمادٍ لم ينطفئ بعد، وسيأتي من ينفخ فيه مجددًا.
يستحضر الدبلوماسي المجازر المتتالية التي ارتكبت في سوريا منذ تولّي أحمد الشرع السلطة بزيّ مدني ولحية مشذّبة، ويقول: لم تكن السويداء أوّل منطقة تُستهدف فيها جماعة دينية بمحاولة إبادة. يتوقّف عند مجازر الساحل السوري، التي جرى تجاوزها عربيًا ودوليًا بوصفها ردّ فعل على عنفٍ سابق. ويستعيد الاعتداء على الكنيسة الأرثوذكسية في قلب دمشق، ثمّ يقف عند مجازر السويداء الأخيرة، ليصل إلى خلاصة موجعة: ثلاثة مكوّنات سورية مُسّت في أمنها ووجودها ـ العلوي والمسيحي والدرزي ـ وذلك كافٍ لتبديد ما تبقّى من وهم الوحدة السورية.
يمضي الدبلوماسي في الاعتقاد بأنّ التعايش تحت سقف وطني واحد بات يحتاج إلى أعجوبة، ويرى في دماء السويداء خارطة طريق مختصرة نحو تقسيم سوريا.
لكن يبقى السؤال لديه معلّقًا: هل تجزئة ما هو مجزّأ ممكنة؟
حين ترفض الأكثريات التعدّد وتصرّ الأقليات على البقاء لا يختلف اثنان على أنّ الأقليات في سوريا ولبنان، تحمل في داخلها حلمًا قديمًا بالانعتاق من أسر “الدولة الكبرى”، وإن ظلّ خطاب زعمائها يتلو ما لا تهتف له القلوب.
في ذروة سطوة “الشفرات” على “الشنبات” بين مشايخ الموحدين في السويداء، لم يعلُ صوت وليد جنبلاط فوق لحية أحمد الشرع بوصفه رئيس سوريا الواحدة، ومثله فعل طلال إرسلان ووئام وهّاب، في حرصهما الكلامي على وحدة سوريا، وإن من موقعٍ أكثر تطرّفاً وحدّة. وإذا كانت الباطنية تقليدًا متجذّرًا في ثقافة الموحدين، فإنّ الفضفضة بالمكنونات موضة لا تبطل لدى المسيحيين.
في الحرب على لبنان، أطلّ شبح التقسيم لا كخيانة لفكرة الوطن، بل كاعتراف متأخّر بخطيئة الجمع بين أضداد تحت سقف واحد. فحين ترفض الأكثريات التعدّد، وتصرّ الأقليات على البقاء، لا يبقى في الأفق إلا خيارّ الانفصال، لا بوصفه طموحًا بل كحبل نجاة.
ما حاول المسيحيون فعله في زمن الحرب، عبر اقتطاع مساحة يقيمون فيها لبنانهم بنقاءٍ طائفي خالص، لم يتلاشَ في زمن “السلم”، بل استمرّ كحلمٍ مع وقف التنفيذ. يحضر في خطابهم مشروطًا بـ “إذا” يتلطّون خلفها.
لم يمضغ “الطائف” المسيحيين فحسب، بل طحنهم في آلته، ثم لفظهم لا إلى الهامش فقط، بل أحياناً إلى العدم السياسي. تحوّلوا من صانعي الكيان إلى شهودٍ صامتين على سقوطه.
واليوم ثمّة ما يُشبه الزخم اللحظوي. مومينتوم مضطرب تقوده الفوضى لا التخطيط. فسوريا على حافة تقسيم، ولبنان يعاني تشظيًا عميقًا: طوائف أنهكتها الاغتيالات، وأخرى سُحبت منها الامتيازات. والرؤوس موزّعة: نعيم قاسم في القرى المدمّرة، وبشار الأسد في موسكو، وعلي خامنئي في طهران. وصهر الجمهورية في ضيافة البيت الأبيض، “يوشوش” يومياً في أذن ترامب.
فهل ثمّة من يلتقط اللحظة قبل أن تفلت؟ أم أنّ الجميع يراقبها تمضي، بعيونٍ مفتوحة على وسعها ولا ترى؟